الوضع في الميدان متغيّر، لا تقبض عليه توقّعات. وما حدث صبيحة يوم السبت الماضي متعدد المعاني، لا تزعم امتلاك دلالته وتداعياته تحليلات. لذا، ثمة ما يبرر التركيز على نقاط بعينها تبدو أقل هشاشة من غيرها في واقع سريع التغيّر. وبهذا المعنى لا نتكلّم عن أشياء كثيرة، بل نركّز على ساعات قليلة في ذلك الصباح.
ولنقل إن ما حدث غير مسبوق منذ قيام الدولة الإسرائيلية. وبصرف النظر عن النتائج، وحتى لو حقق الإسرائيليون ما يرونه انتصاراً ساحقاً (والصحيح أن الانتصار مستحيل، وهذا موضوع معالجات لاحقة) فإن حجم ما وقع صباح السبت ينتمي إلى عالم الخيال والأحلام. ولكن مع فارق لا يمكن تجاهله: لقد وقع، فعلاً، على الأرض، تحت سمع وبصر العالم. وما يزيد من دلالته الدرامية أنه مهين للإسرائيليين بأبعاد أسطورية (حتى لو دمروا غزة).
لا تنحصر الإهانة في الخلل المُطلق لموازين القوى بين المُهاجِمين، والمُهاجَمين وحسب، بل وفي حساسية الإسرائيليين المرضية من ناحية فعلية، إزاء كل خدش محتمل لصورتهم كقوة لا تُقهر، أيضاً. وما أدراك إذا طالت الإهانة، واستطالت، على مدار خمس ساعات تقريباً، بكل دقائقها وثوانيها، من الساسة والنصف، وحتى الحادية عشرة والنصف، صباح يوم السبت.
تمكّن المقاتلون الفلسطينيون، في تلك الساعات، من اختراق الحد الفاصل (بلغت تكلفة البناء والتحصينات، وأجهزة المراقبة والإنذار، مليار دولار) والسيطرة الكاملة على الشريط الحدودي الموازي في الجهة المقابلة، بعمق يصل إلى خمسة وعشرين كيلومتراً، مع كل ما هناك من ثكنات، وقواعد عسكرية، وخطوط إمداد وتجمعات سكنية، دون مقاومة تذكر من جانب الجيش والمواطنين، وأغلبهم خدم في الجيش، وفي حوزتهم أسلحة فردية. والحقيقة أن الجيش لم يعلن السيطرة الكاملة على المنطقة الحدودية، وتأمين التجمعات السكنية إلا يوم أمس، الاثنين.
في وقت ما، قد يطول أو يقصر، سيعرف العالم ما دار في أذهان الجنرالات وكبار الساسة الإسرائيليين، وجرى على ألسنتهم، خلال تلك الساعات. وما لا ينبغي استبعاده في كل الأحوال أن يكون العرق البارد قد بلل ظهور البعض فعلاً، في ساعات الصباح الأولى، ليس نتيجة الجبن، بالضرورة، بل نتيجة وقوع ما لم يتصوّره عقل على الجبهة مع غزة، واحتمال أن يحدث ما يتصوّره العقل، وبالكيفية نفسها، على الجبهة مع لبنان.
في تلك الساعات، بالذات، ارتطم بنيامين نتنياهو، الذي شعر على مدار سنوات أن القدر (والخوف من السجن، على الأرجح) ألقى على عاتقه مسؤولية حسم الصراع في فلسطين وعليها، بالأرض. لن يتجلى ارتطامه بالأرض في الوقت الحاضر. ولكن بعد توقّف القتال، وبصرف النظر عن نتائجه (لن تكون كافية، في كل الأحوال، للتخّلص من صدمة ولطمة الإهانة) سيشكّل الإسرائيليون لجان تحقيق، وسيجد نتنياهو نفسه في قفص الاتهام مرّة أُخرى:
راهن على دوره الاستثنائي كمهندس للقوّة الإقليمية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، وعلى التحالف مع الإبراهيميين (لم يحررهم انهيار الحواضر، وصعود الحامي الإسرائيلي، من ضوابط وحسابات داخلية وخارجية لم تعد مجدية وحسب، بل وسوّغ لهم إمكانية التلاعب بمصيرها، ايضاً) وبالقدر نفسه، أراد تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية، بالرهان على ظاهرة حماس، خاصة بعد استيلائها على قطاع غزة، وتفريغ دور السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من كل مضامين سياسية محتملة، وحصره في الشؤون المدنية والخدمات.
بدت الرهانات المذكورة صحيحة وفعّالة على مدار سنوات مضت، وكفّت عن كونها كذلك صبيحة السبت الماضي. وعلى الرغم مما في عطل مفاجئ كهذا من سوء في ذلك الصباح، إلا أن البيئة الاستراتيجية العامة للقوّة الإسرائيلية الصاعدة لم تكن أقل سوءاً في ساعات الصباح.
فإذا كان مصدر العرق البارد على ظهور الجنرالات (لا قيمة لأشخاص كبن غفير وغيره من قبضايات الميكروفونات في حالات كهذه) أن يكون الهجوم بالتنسيق مع حزب الله، وأن يحقق اللبنانيون، نتيجة الصدمة والشلل، ما حقق الفلسطينيون، فإن حسابات البيئة الاستراتيجية، وهي الشغل الشاغل لنتنياهو على مدار سنوات، وأقوى مرافعاته لدى ناخبيه، لم تكن أقل إثارة للذعر.
فعلى الرغم من التهديد الدائم، وبناء التحالفات، والتحريض، التحذير من مخاطر القوّة الإيرانية (الصاعدة أيضاً) إلا أن القوّة المعنية تبدو للرائي، في ذلك الصباح، أكثر قدرة على إلحاق الأذى من كل أعدائها في السر والعلن. في اليمن هناك صواريخ الحوثيين، التي تمثل تهديداً لكيانات واقتصادات نفطية مختلفة في الخليج، وفي العراق تقترب ميليشيات شيعية من الحدود الإسرائيلية عبر سورية، ولديها من الصواريخ ما يصلح لتهديد العمق الإسرائيلي، إضافة إلى حزب الله على الحدود السورية، وفي جنوب لبنان، وحماس والجهاد في غزة.
بمعنى آخر: البيئة الاستراتيجية التي أسهمت سياسات نتنياهو وشركاه في الإقليم والعالم في توليدها، بدعوى مجابهة الخطر الإيراني، تبدو مفتتة، وعصية على الضبط والسيطرة، فكل الجماعات المذكورة لا تمثل جيوشاً بالمعنى التقليدي للكلمة، ولا تمثل دولاً يمكن إخضاعها للقانون، ومنطق العلاقات الدولية، ويصعب التنبؤ بردود أفعالها.
سمتها الرئيسة علاقات وثيقة بإيران، وقد نجم صعودها عن انهيار النظام الإقليمي، والتنافس بين كيانات هامشية على الزعامة والنفوذ في المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي. لم نسمع، بعد، ارتطام نتنياهو بالأرض في ذلك الصباح، ولكن لا يصعب التكهن أنه كان مدوياً.
فاصل ونواصل.