قبيل نهاية اليوم الثاني على الحرب في غزة تجد إسرائيل نفسها أمام معضلة صعبة جداً. يقتضي الهجوم المفاجئ والفعّال لـ "حماس"، الذي ما زالت نتائجه الرهيبة تتم مشاهدتها في كل أرجاء غلاف غزة، رداً عسكرياً ساحقاً. ولكن إسرائيل ما زالت تأمل بشكل ما أن تفعل ذلك دون التورط في حرب متعددة الجبهات تشمل أيضاً "حزب الله". للمرة الأولى مطلوب منها مواجهة واقع جديد، حيث يحتجز العدو أيضاً عشرات المخطوفين الأسرى وعدداً كبيراً من جثث الجنود والمدنيين الإسرائيليين.
عدد القتلى، الذي ينشر بالتدريج، آخذ في الارتفاع، وكذلك عدد المصابين، الذي هوم الأكبر منذ حرب "يوم الغفران"، وذلك ينبع من نجاح "حماس" في توجيه جزء كبير من الهجوم القاتل ضد مدنيين أبرياء.
قام "المخربون" بمذابح فظيعة في الحفل الجماعي الذي جرى في الهواء الطلق وفي بيوت الكيبوتسات والمدن القريبة من الحدود.
هذه مشاهد لم نرَها في حياتنا، وهي تثير بالطبع الغضب الشديد والشعور بالغثيان.
من يحاول المساواة بين جرائم القتل هذه وبين القصف الإسرائيلي الذي يأتي رداً على ذلك لن يصيب كبد الحقيقة. "حماس" هي المعتدية في هذه الحالة، وقد ارتكبت بشكل متعمد جرائم حرب ضد السكان المدنيين.
لكن المقارنة بجرائم الإبادة أو المذابح ضد اليهود في روسيا ليست في مكانها.
هنا ما زال يوجد، رغم الفشل الذريع، جيش قوي يمكنه الدفاع عن المدنيين، وقد تم إدخاله الآن إلى العمل.
لا يبشر الهجوم المخيف بخراب "الهيكل الثالث"، بالضبط مثلما لم يؤدّ وباء "كورونا" إلى إنهاء الجنس البشري.
أيضاً يفضل أن لا تزيد وسائل الإعلام الرعب أكثر من الوضع البائس والصعب أصلاً. وكان يمكن استخلاص هذا الدرس منذ الجولة الثانية.
إلى جانب الصدمة التي أثارها الهجوم، والتقديرات الخاطئة للاستخبارات وجهاز الأمن، بقيت هنا الآن أمامنا حبة جوز عصية على الكسر. توجد أمام أنظار القيادة الإسرائيلية عدة إمكانيات:
- مفاوضات سريعة من أجل التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، ستطالب "حماس" فيها بثمن مرتفع جداً من خلال تحرير السجناء – القتلة (وتسجل لنفسها انتصاراً معنوياً عظيماً آخر).
- قصف من الجو لأهداف "حماس" في القطاع، في إطاره سيصاب أيضاً آلاف المدنيين الفلسطينيين.
- تعزيز الحصار وضرب البنى التحتية في القطاع إلى درجة الخوف من كارثة إنسانية والتدخل الدولي.
- القيام بعملية برية واسعة ستؤدي إلى خسائر كثيرة في الطرفين، وربما تفشل.
تقريباً في الساعة الثالثة ظهراً بدأ قصف كثيف من الجو للقطاع. ولكن من غير الواضح تماماً إلى أين سيؤدي ذلك على المدى البعيد.
ولا خيار من هذه الخيارات ناجح، لكن هذه هي طبيعة المعضلات الصعبة، وهذا هو اختبار القيادة.
هذا المحك يجب أن يجتازه الآن رئيس الحكومة، الذي أدخلنا إلى هذا الشرك من البداية، ورؤساء أجهزة الأمن الذين يعانون من أزمة ثقة صعبة معه، والوزراء الذين في معظمهم ليست لهم تجربة سياسية أو أدنى قدر من المسؤولية، وجميعهم لديهم خلفية عسكرية ضئيلة جداً.
ظهرت التسريبات من جلسة الحكومة في البداية محرجة إزاء مستوى هذه النقاشات. ولكن بالتحديد لهذا السبب كان لها أهمية في أوساط الجمهور. فقد أثبتت إلى أي درجة معظم أعضاء الحكومة غير مناسبين لمناصبهم، لا سيما في هذا الوقت الصعب.
تبين أن بعض الوزراء، من خلال الاقتباسات، زمرة من الأشخاص المشاكسين.
وإذا لم يكن هذا كافياً فقد أعلن بنيامين نتنياهو، أول من أمس، بعد أن مد الوقت طوال سنة، عن تعيين منسق جديد لشؤون الأسرى والمفقودين، العميد احتياط غال هيرش.
ما الذي يميز هيرش عن عشرات رجال الأمن الآخرين بالرتبة ذاتها؟ التأييد الكبير لكل خطوات نتنياهو، والمكان الثابت في الطاقم التلفزيوني في برنامج أيلاه حسون.
آلة السم استيقظت
بقيت الصورة الاستراتيجية الشاملة معقدة جداً. يعطي "حزب الله" إشارات من لبنان من خلال إطلاق قذائف الهاون على مزارع شبعا، بإمكانية تدخله.
رد الجيش الإسرائيلي بقصف جوي للخيمة المختلف عليها، التي أقامها "حزب الله" جنوب الحدود في مزارع شبعا.
من غير الواضح كيف سيرد "حزب الله" على العملية الإسرائيلية في غزة.
في هذه الأثناء أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن الولايات المتحدة ليس فقط تؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والرد، بل أيضاً سترسل الآن قوة بحرية إلى شرق البحر المتوسط – هذا تصريح مهم جداً في إطار محاولة ردع "حزب الله".
في ظل تردد إسرائيل حول كيفية التصرف يطرح سؤال هل سنعرض للخطر حياة المخطوفين: كيف سنوازن بين حياة الأقلية التي من شأنها أن تتضرر في أسْر "حماس"، ربما بمبادرة متعمدة من قبل الخاطفين، وبين الخطر على حياة عدد أكبر إذا سمح لهذه المنظمة بمواصلة نشاطاتها دون إزعاج؟ إلى أي درجة يمكن للجيش النظامي، الذي لم يجرب منذ خمسين سنة أعداداً كهذه من المصابين، أن يجتاز هذا الاختبار الصعب لفترة طويلة ويواصله أيضاً بعملية برية في الجبهة الداخلية للعدو في قطاع غزة؟
في هذه الأثناء لم يحسم نتنياهو حتى الآن الأمر. ولكن آلة السم التي توجد تحت تصرفه استيقظت من التشويش الذي ضبطت فيه.
لم تمر إلا بضع ساعات ليعثروا على المذنبين. ليس فقط أن جهاز الأمن فشل في التشخيص وفي وقف الهجوم (مثلما حصل حقاً، وفي النتائج الصعبة) يجب أن تكون هنا خيانة من الداخل، ربما ضابط من اليسار التقدمي، قام بفتح البوابات لرجال "حماس". وإلا كيف يمكن شرح هذه الكارثة؟ هذه الأقوال قيلت بمنتهى الجدية.
ما يثير الرعب في هذا الأمر هو أن هذه الكذبة الفظيعة، التي أطلقت في البداية في الشبكات الاجتماعية وتسربت بالتدريج إلى هوامش النقاشات في القناة 14، بدأت تجد من يصدقها في أوساط الجمهور.
يحدث هذا من خلال النشر الممنهج والمخطط له من جانب البيبيين. بعد لحظة سيدوي من قبل أعضاء الكنيست في الائتلاف وأبواق في وسائل الإعلام.
هذه فرية، تذكر بالادعاءات في ألمانيا حول غرز سكين في ظهر الجنود في الجبهة تفسيراً للهزيمة والاستسلام في نهاية الحرب العالمية الأولى.
أيضا يجب الآن على رؤساء جهاز الأمن وآلاف الضباط والجنود الذين يضحون الآن بأنفسهم في الجنوب أن يواجهوا هذه الخدعة النفسية، حتى لو كان بعضهم لم يصوتوا كما يبدو لأحزاب الائتلاف.
تقريباً من نافل القول إن نتنياهو يسمح لهذه الفرية بأن تمتد وتنتشر. بعد ذلك سيقوم بإقالة شخص ما بسببها، بعد أن يكون متأكداً من أن الانطباع تم استيعابه.
على الأقل على خلفية تفاقم الأزمة كان يبدو أن الجهود لتشكيل حكومة طوارئ تتقدم في المساء.
الحاجة إلى المزيد من الأيدي المجربة والهادئة قرب الدفة لم تكن واضحة أكثر من أي وقت مضى.
خلل مقرون بالإهمال
في مستوطنات الغلاف تواصلت، أول من أمس، ببطء يثير الإحباط، الجهود العسكرية لإعادة سيطرة إسرائيل على المنطقة وضرب الخلايا "الإرهابية" التي ما زالت تختبئ في المنطقة.
هناك صعوبة في الإبقاء على المنطقة نظيفة من المقاومة، بسبب اختراق الجدار في عشرات النقاط.
في كيبوتس باري، وهو أحد النقاط التي تعرضت للضربة الأكثر قسوة، تم تطهير المقاومة في الفجر.
بعد الظهر مرة أخرى اقتحمت خلية كبيرة تابعة لـ "حماس" الجدار وفي المكان تطور تبادل شديد لإطلاق النار.
في الوقت ذاته استمرت الصعوبة في تهدئة الجهود الأخرى.
أثار نجاح "حماس" الفوضى الكبيرة التي سيحتاج الجيش وقتاً طويلاً كي يستيقظ منها: ضخ القوات، إعدادها لمهمات جديدة، بذل الجهود اللوجستية، وحتى الاتصال مع عائلات القتلى والمفقودين والمصابين.
إحدى القضايا التي يجري الآن حولها نقاش سياسي ملتهب، تتعلق بحجم القوات المحدود التي تم تكليفها بحماية الغلاف.
بأثر رجعي، من الواضح أن هذا كان خطأ قاسياً، وضآلة عدد كتائب الحماية في نقاط اللقاء قادت إلى قدرة "حماس" على الاندفاع إلى الأمام والتسبب بأضرار كثيرة.
هذا خلل مقرون بالإهمال الطويل من قبل الدولة للاحتياجات الأمنية في الغلاف، وظهرت بتعامل مهمل وإشكالي طوال سنين لمسؤولي الأمن ومجموعات الطوارئ في المستوطنات الذين حاربوا، السبت الماضي، ببطولة كبيرة، وأوقفوا عدة مرات سيطرة "المخربين" على المستوطنات، مع وقوع خسائر فادحة.
يضاف إلى ذلك الادعاء بأن الجيش الإسرائيلي أرسل قوات كبيرة إلى الضفة الغربية، بضغط من المستوطنين.
هذا صحيح فقط بشكل جزئي. بدأت مضاعفة القوات في الضفة في آذار من السنة الماضية، بعد موجة العمليات التي مصدرها هناك. ولكن هدفها كان تل أبيب ومدنا أخرى داخل الخط الأخضر.
اعتُبر التعزيز أمراً حيوياً؛ لأن خط التماس تم إهماله وبقي مخترقاً بالكامل أمام عمليات التسلل. وهذه القوات لم يتم تحويلها في معظمها من غزة، بل من التدريبات.
تقول العقيدة العسكرية إن خط الاتصال لا يجوز أن يخترق في أي وقت. لذلك، يقتضي الأمر استعداداً دفاعياً مناسباً من أجل النهوض بسرعة وصد الهجوم، حتى لو كان هذا الهجوم فاجأنا وحقق أفضلية كبيرة.
في حدود غزة نشأت أيضاً صعوبة في الوعي. يصعب جداً على المقاتل الانتقال بتفكيره من صفر كم إلى 100 كم في الساعة في ثوانٍ، من حدود ناعسة إلى وضع حرب، حيث لا يوجد تحذير مسبق.
كل هذه العوامل عملت لغير صالح الجيش الإسرائيلي، لكن التحيز السياسي الذي يقف من خلف هذه الأمور أقل وضوحاً. الحديث عن ثلاث كتائب، نقلت من القطاع لحماية قبر يوسف، تفسير خاطئ للواقع.
إلعاب ملء المربعات
بدأ صحافيون، أول من أمس، في إدارة ألعاب لوغو في هيئة الأركان، مع توصية بإعادة أبطال سابقين وكأن الأمر يتعلق بمباراة أخرى لمنتخب كرة القدم وليس بمصير أرواح.
بعد الحرب، سيكون هناك مكان وضرورة لإجراء تحقيقيات عميقة، وربما اتخاذ خطوات تأديبية. ولكن رئيس الأركان، هرتسي هليفي، بقي الشخص الصحيح لقيادة الجيش الإسرائيلي في أصعب الظروف في الخمسين سنة الأخيرة. فله تجربة ومستقيم وهادئ وعقلاني. بسبب الظروف الاستثنائية لن يكون له أي خيار سوى أن يتحدث بين حين وآخر بصورة مباشرة إلى الجمهور.
يجب القول أيضاً إنه بخلاف تام للعام 2006 لم تكن هنا حالات لقادة بقوا متسمرين أمام شاشات البلازما، هؤلاء ليسوا فقط جنرالات الاحتياط الذين تطوعوا لقيادة جهود إنقاذ السكان المحاصرين.
بعد المفاجأة الصعبة، ضحّى قادة كبار في الألوية والكتائب بأنفسهم عندما انقضوا ببسالة على رأس مقاتليهم لصد هجوم "حماس" وإنقاذ حياة المدنيين. العقيد روعي ليفي، قائد الوحدة متعددة الأبعاد، قتل على حدود غزة بعد تسع سنوات من إصابته بجروح بالغة في عملية "الجرف الصامد" حيث كان قائداً لكتيبة دورية غولاني.
وقد عاد للخدمة، أيضاً في هذه المرة لم يتردد في الانقضاض. فقد الجيش الإسرائيلي في المعارك عدداً من أفضل قادته، من بينهم روعي (44 سنة).
ليفي، ابن الصهيونية الدينية، كان حساساً بشكل خاص لأخلاق القتال.
في العام 2015، بعد سنة على إصابته، اهتم باستدعاء مراسل إلى محاضرة أمام خريجي دورة لضباط المشاة، لأنه خشي من أن تضعف قيم القتال لديهم على خلفية العمليات، بما سمي في حينه "انتفاضة السكاكين".
في هود هشارون تجمع، أول من أمس، أبناء عائلات وأصدقاء جاؤوا للتعزية في بيت جندي غولاني، الرقيب غاي بيزك (19 سنة)، الذي قتل في معركة في كيبوتس كيسوفيم. تكبد لواء غولاني في القتال خسائر فادحة. تجند غاي للكتيبة 51 قبل سنة تقريباً، في أعقاب والده يوفال الذي كان في التسعينيات قائد الكتيبة.
وقد كان فخوراً بأن يرث شعار الوحدة الذي حصل عليه يوفال نفسه من مقاتل غولاني في الخمسينيات.
يوفال بيزك، العميد احتياط، تم إرساله، السبت الماضي، بعد الظهر إلى فرقة الجليل، وهناك عمل رئيساً لهيئة القيادة.
كلما مر الوقت ازداد لديه القلق على مصير ابنه في القطاع. قبل بضعة أشهر التقى بيزك الأب مع جنود الفصيل وقال لهم: "أنتم ستضطرون لاحقاً إلى القتال".
لم يخطر بباله أن هذا الأمر سيحدث في ظروف بداية كهذه. في ساعة متأخرة في المساء استدعى بيزك قائد فرقة الجليل، العميد شاي غلبر، وهو أحد مرؤوسيه السابقين. في الغرفة كان يوجد عميد آخر، صديق قديم في السلاح من غولاني.
ذهب بيزك إلى ابنته البكر، التي استدعيت مجندة احتياط للواء جبل الشيخ. وأبلغها عن موت شقيقها ومن هناك أخذها في طريقه الطويلة إلى البيت لإبلاغ زوجته وابنته الصغيرة. كانت الساعة تقريباً الواحدة بعد منتصف الليل عندما وصل وأيقظ زوجته من النوم.
بعد ذلك أبلغ الأب أصدقاءه هاتفياً عن ابنه الذي سقط.
نحن أصدقاء منذ أكثر من ثلاثين سنة. منذ أن كان قائد فصيل لدى قائد الكتيبة الأسطوري، إيرز غريشتاين.
كان اللقاء مع بيزك في ساحة بيته يفطر القلب. كرّر هذا الحدث نفسه بأشكال مختلفة في مئات أخرى من البيوت في أرجاء إسرائيل في الأيام الأخيرة.
عن "هآرتس"
"الكابينيت" يبحث اليوم الرد الإيراني المتحمل على إسرائيل
27 أكتوبر 2024