أظنُّ أنّ اللحظة لا تحتمل الإغراق في السرد والتحليل الكامل لما جرى، لأنّ الأمر لا يزال يجري، ولأنّ الباب مُوارب على احتمالات كثيرة ومُتعدّدة، ومُتغيّرة حسب الكثير من المُعطيات الميدانية، وحسب عوامل أكثر من ردود الأفعال والتبعات والنتائج.
دَعُونا في محاولة استكمال ما انتهينا إليه في المقال السابق «عشرُ ساعاتٍ زلزلت إسرائيل».. أن نطرح الأسئلة «الحارقة»، وأن نحاول البحث عن أجوبةٍ مُرجّحة عليها.
السؤال الأهمّ: طالما أنّ إسرائيل أعلنت الحرب رسمياً، وطالما أنّ هذه الحرب لها أهداف محدّدة، بما فيها طبعاً، الانتقام والفتك والتقتيل، وتدمير كلّ شيء يمكن تدميره، فإنّ هذه الأهداف تحتاج إلى تأمين شروط خوضها، بما في ذلك الغطاء السياسي الداخلي، والغطاء الدولي الداعم، وضمان الصمت الإقليمي، أو إبقاء ردود الأفعال على هذه الحرب، وكلّ ويلاتها على الشعب الفلسطيني في نطاقٍ لا يؤثّر على سيرها وعلى استمرارها، وعلى وصولها إلى تلك الأهداف.. طالما أنّ الأمر كذلك، فإنّ المطلوب فوراً من الوجهة الإسرائيلية تأمين القضايا التالية:
• حكومة طوارئ، ويبدو أنّها قيد التشكُّل والإعلان، أو أيّ شكل كاريكاتوري منها.
• الدخول بحربٍ برّية، ويبدو أن القرار بشأنها قد اتّخذ فعلاً، وجار تحديد شكل هذه الحرب البرّية، على الأقلّ من الناحية المبدئية.
• الغطاء الدولي تمّ تأمينه بأفضل ممّا كانت تتوقّع إسرائيل نفسها، وتبدو الإدارة الأميركية على نفس درجة الحماسة لهذه الحرب، إن لم نقل أكثر، وتبدو الولايات المتحدة مهتمّة بهذه الحرب لأسبابها الخاصة، وبأبعد من الاهتمامات الإسرائيلية.
• وتبدو إسرائيل والولايات المتحدة مطمئنتين ــ حتى الآن ــ لرضوخ الوضع الإقليمي، وعدم قدرته على الخروج عن السقف المتوقّع والمعتاد.
في ضوء ذلك، فإنّ هذه الحرب، ومن خلال اجتياح برّي شامل، أو اجتياحات برّية لتقطيع الأوصال، ليسهّل السيطرة على بؤر المقاومة فيها أصبحت حتمية، لأنّ إسرائيل باتت تعتبر حركة حماس خطراً «وجوديّاً» لا تستطيع بأيّ شكلٍ من الأشكال «التعايش» معه، وأصبح المطلوب ليس فقط إضعافه وتقليصه، وإنّما إزاحته من المشهد، وتغيير الواقع في قطاع غزة، وهذا الهدف بالذات هو الوحيد الذي يؤمّن لإسرائيل محو صورة الهزيمة التي مُنيت بها، وهو الوحيد الذي يؤمّن استرجاع صورة الدولة القوية التي تتمتّع بالقدرة الكلية على الردع، لكنه يبقى هدفاً هلامياً وضبابياً إلى حدٍّ بعيد.
أقصد أنّ الحرب البرّية ليست خياراً من الخيارات، وإنّما الممرّ الإجباري الذي لن تتمكّن إسرائيل من تحقيق ما تراه أهدافاً لها من خلال هذه الحرب إلّا عَبره وبواسطته تحديداً وتخصيصاً.
دليلي على ذلك، هو أنّ المقاومة ما زالت تقصف بصورةٍ مستمرّة، بل ازدادت قدراتها من حيث الكثافة ونوعية الصواريخ، وأصبحت تنذر وتحذّر وتنفّذ، ولديها مفاجآت جديدة، وتثبت أنّ لديها إمكانيات تقنية عالية، وباتت قادرة على مناورات استراتيجية كبيرة في إدارة المعارك.
هل ستكون الحرب البرّية سهلة على جيش الاحتلال الإسرائيلي؟ وهل هذه الحرب البرّية مضمونة النتائج، وماذا لو فشلت؟ ماذا سيكون عليه الموقف الإسرائيلي، والأميركي، والإقليمي، أيضاً.
أقصد، هل تنطوي الحرب على أخطارٍ من هذا القبيل، وعلى أخطارٍ أخرى من نوع اتّساع رقعة الحرب لتشمل جبهاتٍ أخرى، وعلى اختراق السقوف المعتادة من ردّة فعل الإقليم العربي، أو التحوّل إلى حربٍ طاحنةٍ وشاملةٍ بمشاركة إيران وسورية وكلّ من يدور في فلكهما؟
بمعنى آخر، تمكّنت إسرائيل من تدمير البنى التحتية في القطاع، وقتلت مئات السكّان المدنيين، وأبادت عائلات عن بكرةِ أبيها، ومسحت أحياءً بكاملها في كل القطاع، وأعلنت أنّها ستهجّر أهل القطاع، وأكّدت أنها ستقطع عنهم الماء، والكهرباء، والدواء، والوقود، ولم يتبقَ سوى أن تمنع الهواء فقط!
لكنّ المقاومة تبدو أقوى ممّا كانت تظنّ إسرائيل، وعلى درجةٍ أعلى من الاستعداد ممّا كانت تتصوّر، وتدير الأمور العسكرية الميدانية بصورةٍ بارعة حتى الآن!
فماذا يتبقىّ لإسرائيل والحالة هذه سوى أن تدخل في مغامرة الحرب البرّية؟
لو أنّ إسرائيل استمرّت بتدمير القطاع دون الحرب البرّية، فإنّ «المكسَب» الوحيد الذي ستجنيه هو الانتقام، وشفاء الغليل، والضغط على المقاومة للرضوخ بسبب عدم قدرة الناس على البقاء أحياءً.
هل يمكن أن يكون التهديد بالحرب البرّية شكليّاً، ويكون الهدف الحقيقي هو الضغط من خلال التدمير؟
إذا كانت إسرائيل تفكّر بهذا الأسلوب، فإنّ قيادتها السياسية والعسكرية لا تستحقّ أن توصف إلّا بالقيادات من الدرجة الثالثة. نعم، لن تكون القيادات الإسرائيلية سوى «تيرسو» أو بضاعة من الصنف، أو النَّخب الثالث.
لماذا؟
ببساطة، لأنّ قتل المدنيين، وتدمير البيوت على رؤوس الناس، وقطع الماء والكهرباء والدواء ستفضي إلى تفكُّك الحلف الداعم لإسرائيل، وستفضي إلى «تمرُّد» الإقليم العربي تدريجياً، وإلى تحويل تدخُّل السّاحات الأخرى من مشاركة في الحرب على إسرائيل، إلى تدخُّل «إنساني» لإنقاذ مئات آلاف الفلسطينيين من الموت المحقّق، وبذلك تكون إسرائيل قد خسرت كلّ شيء، ولا تعود قادرةً على تغيير شيء.
لهذا فإنّ الحرب البرّية أعلى كُلفة عسكرياً، والخسائر العسكرية لم تعد بهذه الأهمية بعد كلّ ما تكبّدته إسرائيل، ولكنّها أقلّ كلفة من الناحية السياسية، خصوصاً إذا توقّف قتل المدنيين وتدمير القطاع، أو ما تبقّى فيه ومنه.
وما أراه أنّ القيادة الإسرائيلية فقدت صوابها، وفقدت ما كان قد تبقّى فيها من عناصر التوازن والواقعية والعقلانية، وهي، الآن، تتصرّف بكامل لياقتها من الوحشية والإجرام.
عندما تمرُّ أيّ قيادة بظروف كهذه، ظروف الانكسار وفقد الهيبة، وظروف التحطُّم المعنوي، فعلينا أن ننتظر كلّ ما يندى له أيّ جبينٍ، وكلّ ما هو وحشيّ، وكلّ ما هو متهوّر، والأهمّ أنّها تعجز عن وضع أهداف ملموسة قابلة للتحقيق، وتفشل في اختيار الوسائل والأساليب، وينصبُّ تفكيرها في العقاب والحساب من المستقبل.
مفترض، أو كان مفترضا أن ترى إسرائيل بأنّ «حماس» ما كان ممكناً أن تُقدِم على ما أقدَمَت عليه دون أن تحسب حساباتها، طالما أنّها تمتلك القدرات التي أظهرتها في كامل العملية.
ومن المؤكّد أنّها حسبت بصورةٍ دقيقة كلّ التدحرجات نحو الحرب البرّية، وحسبت بالضبط، وربّما نسّقت، أيضاً، اللحظة التي ستدخل السّاحات الأخرى في هذه الحرب.
وبرأيي فإنّ دخول «حزب الله»، وربّما سورية سيتمّ في حالتين فقط:
الحالة الأولى، أن تَضعُف «حماس» وتُشارف على الرضوخ، لأنّ «محور المقاومة» في هذه الحالة سيخسر كلّ شيء إذا أبقى الأمور تسير في هذا الاتجاه، وهو ما لم يسمح به مطلقاً حسب القراءة التي أتبنّاها.
أمّا الحالة الثانية، فهي وصول الوحشية الإسرائيلية إلى حدود يستحيل السكوت عنها.
والاستنتاج هنا هو أنّ إسرائيل قد وقعت في شركٍ نصبته لنفسها، بسبب هشاشة قيادتها أوّلاً، وبسبب غرور وعنجهية هذه القيادة، وبسبب الحجم الهائل من شعور القيادات العسكرية والأمنية بفقدها المكانة والدور، وبسبب مستقبل هذا الدور لاحقاً.
فهي لن تربح الحرب البرّية، وهي ستُقحِم نفسها في حربٍ أكبر بسبب الفشل الذي مُنِيت به حتى الآن، وبسبب الفشل الذي ستُمنى به في الحرب البرّية، وبسبب نتائج التوحُّش الذي تمارسه سواءً دخلت الحرب البرّية، أو هربت منها، وأبقت على خيار الإبادة التي تقوم بها.
صحيح ما قالته القيادة الإسرائيلية بأنّ هذه الحرب ستغيّر الشرق الأوسط، ولكنّها لم تقل لنا بأيّ اتجاه سيتغيّر!
وخُلاصة القول: إن إسرائيل أعلنت حرباً لا تعرف بالضبط ماذا تريد منها، وليست مهتمّة بتحديد أيّ أهداف لها، وهي تهرب وتتهرّب من هذا التحديد عن قصدٍ وسابق إصرار حتى لا تُحاسَب عليها، وهي لا تعرف فيما إذا كانت ستتحوّل إلى حربٍ أكبر، ولا تعرف متى ولماذا؟
إذا صحّت تقديراتي هذه فهناك الكثير ممّا سنكتبه حول «الشرق الأوسط الجديد» الذي تتحدّث عنه إسرائيل في المقال، أو المقالات القادمة.