انتظـروا لـتروا

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 

 

كنتُ سأعتذر عن كتابة هذا المقال، على الرغم من الرغبة والحاجة للكتابة، فهذا جزءٌ من دور ومسؤولية، لا يمكن أن أتخلّى عن القيام بها إلى أن تخرج الرُّوح إلى بارئها.
كلّ الوسائل المطلوبة للكتابة غير متوفّرة، الكهرباء، الـ»نت»، وسائل التواصل، والمعدّات الأخرى كالطاولة والكرسي.
جاءني الخبر، من ابني الذي خرج لشراء بعض الاحتياجات أو ما توفّر منها لتعزيز صمود أربعة عشر إنساناً، يسكنون في بيتٍ لا تتجاوز مساحته المئة متر مربّع، خالٍ تماماً من أيّ أثاث.
جاءني ابني باكتشافٍ عظيم، حيث وجد مكاناً تتوفّر فيه خدمات طاقة شمسية توفّر الاتصال عَبر «الإنترنت»، وسيكون بإمكاني أن أكتب وأُرسل المقال من دون أن أعرف ما إذا كانت المحطّة الوسيطة بيني وبين «الأيّام»، لديها القدرة على إرساله.
صورة مصغّرة جدّاً، وربما لا تعبّر بالقدر الكافي عن معاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة منذ بداية العدوان الأميركي الصهيوني.
من المرّات القليلة التي أُقدّم فيها الأميركي على الصهيوني، ولكننا على الأرجح سنواصل ذلك، بعد أن اتّضح، أنّ قرار الحرب وإدارته، موجودة في «البيت الأبيض» الذي استعجل الإعلان عن دوره في تشجيع دولة الاحتلال، ومنحها التغطية والفرصة، وإرسال بوارجه الحربية إلى شرق المتوسط، لتوفير كلّ الظروف التي تساعد الدولة العنصرية الفاشية على أن تفرّغ كلّ حقدها وطاقتها التدميرية، على سكّان القطاع.
حين تعود إلى الخلف قليلاً، عليكَ أن تستعيد خارطة فلسطين التاريخية كلّها التي أظهرها نتنياهو خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتشمل قطاع غزّة، أيضاً، ما يعني أنّ نتنياهو ودولته، كانت لديهم الرغبة والاستعداد لتنفيذ مثل هذا المخطّط سواء وقعت عملية «طوفان الأقصى» أم لا.
الإدارة الأميركية، ومن خلفها بريطانيا «وعد بلفور»، ومن خلفهما أوروبا الاستعمارية، وقفت كلّها خلف العصابة التي تقود الشركة الأمنية العسكرية التي تتواجد على أرض فلسطين منذ خمسة وسبعين عاماً.
الحديث عن شركة أمنية اسمها إسرائيل، لا يأتي من باب إلحاق بعض الصفات لدولة يكفي أنّها احتلالية عنصرية فاشية، ولكن لأنّ الواقع ومجريات الحدث تؤكّد ذلك.
هذه الشركة لا تهتمّ بالقانون الدولي الإنساني، بل تحتقر كلّ هذه المنظومة من القيم الإنسانية، وكلّ همّها خدمة المخطّطات الاستعمارية وبيع الخدمات الأمنية والعسكرية لمن يشتري، بشرط ألا يخرج عن شروط الولايات المتحدة.
من يشترِ هذه الخدمة لا يمكنه أن يستعملها أو يوظّفها حتى في خدمة بلده، وليس فقط في خدمة أطرافٍ لا تتّفق مصالحها مع مصالح المشغّل والأداة.
حين تعلن الإدارة الأميركية والفرنسية، والروسية، ودول أخرى أوروبية، أنها فقدت عدداً من مواطنيها حَمَلَة الجنسية الإسرائيلية، تنكشف طبيعة وتركيبة هذه الشركة، ذلك أنّ هؤلاء مجرّد رعايا تهتمّ بحياتهم دولهم الأصليّة التي جاؤوا منها.
هنا يكمن فرق جوهري، فالفلسطيني مواطن في بلاده، حتى لو أنكرت عليه إدارة الشركة هذه الصفة، أمّا المستوطن فإنّه من رعايا دولة أخرى. لا تستعجلوا النتائج، فالشمس بعد لم تشقّ عتمة الليل، وحين يحصل ذلك، سيدرك الجميع أنّ هذه الشركة العصابة ستدفع ثمناً باهظاً من قدرتها على الوجود والاستمرار، وسيكتشف المشغل أنّ التغيرات التي ستطيح بموقعه الاحتكاري على رأس النظام العالمي ستجرف في طريقها الكثير من أدواته وشركاته، وبضمنها الشركة المسمّاة إسرائيل.
أراد نتنياهو، الذي صعد أعلى الشجرة مراهناً على الدعم الأميركي الأوروبي، أن يمسح المقاومة عن وجه الأرض، وأن يمسح الوجود الفلسطيني عن أرض غزّة، كخطوةٍ أولى لمسح الوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس.
ضغطت الآلة العسكرية الإسرائيلية بالقوّة على المدنيين، واشتغلت معها الدبلوماسية الأميركية والأوروبية، لتهجير السكّان إلى مصر.
كان ذلك سيعني أنّ إسرائيل ستستفرد بالمقاومة، بعد عزلها عن حاضنتها الشعبية، لكن الموقف المصري والعربي حال دون ذلك. مصر وقفت وقطر والأردن، والعربية السعودية أعلنت عن وقف «مفاوضات التطبيع»، ما أفسد على جو بايدن مخطّطاته وأهدافه، وجعله في حيص بيص من أمره.
ارتبك المشغل وارتبكت الأدوات، ولم يعد بمقدورهم اتخاذ قرار بشأن الاجتياح البرّي، الأمر الذي سيجعلهم يبحثون عن مخارج تحفظ ولن تحفظ كلّ المخارج ما تبقّى من ماء الوجه.
فالإدارة الأميركية المتهالكة كانت تنتظر الفوز بإنقاذ إسرائيل، والحصول على «ورقة التطبيع» بين السعودية وإسرائيل، لكونها الورقة الوحيدة الرابحة، لتمكين بايدن من المنافسة في السباق الرئاسي.
الآن تخشى الإدارة الأميركية، والعصابة الفاشية، من أن تخرج الأحداث عن السيطرة، ويقع المحظور. إيران أبلغت إسرائيل من خلال الأمم المتحدة أنّها قد تنخرط في المواجهة، و»حزب الله» لا يزال يُشاغل إسرائيل في انتظار اللحظة المناسبة.
يقوي هذا العرب، لأنّ مثل هذه التطورات لو حصلت ستخلط كلّ الأوراق في المنطقة وتفتح على أقلمة الصراع، والمساس بمصالح أهل المنطقة.
هكذا يكون الموقف العربي الرافض والمناهض للمواقف الأميركية والأوروبية والإسرائيلية، هي الأشدّ تأثيراً في مجريات الأحداث ومآلاتها.
الحقد الإسرائيلي الأعمى، حوّل حياة سكّان قطاع غزة إلى كارثة إنسانية حيث لا ماءَ ولا كهرباء، ولا موادَ غذائية، ولا أمن، ولا منزل، ولا وسيلة اتصال، فضلاً عن الحالة المأساوية التي تعاني منها مستشفيات القطاع.
الحياة في غزّة صعبة جدّاً، فلقد دمّرت إسرائيل مئات آلاف الوحدات السكنية، وأخرجت عديد المشافي عن الخدمة، وطلبت من مستشفيات أخرى إخلاءها تمهيداً لقصفها.
مع كلّ ذلك، يعبّر الواقع عن جهلٍ إسرائيلي أميركي، بقراءة الشخصية الفلسطينية التي أشار إليها مراراً آري شبيط، وجدعون ليفي.
الفلسطيني كان هنا وهو هنا وسيبقى هنا ويعاود الكَرّة وبسرعة لإعادة بناء حياته، تمهيداً لجولاتٍ أخرى، تنطوي على تصميمٍ وإيمانٍ راسخ، بشأن استعادة حقوقه الوطنية كاملة غير منقوصة.
هذه الجولة ليست كما قبلها، وما بعدها لن يكون كما قبلها، ومن لا يصدّق عليه الانتظار ليرى.