كما وعدتُ في نهاية المقال السابق «أسئلة اللحظة والإجابات المرجّحة»، ها أنا أُحاول أن أُبيّن ما أستطيع خلفيات وتبعات هذا «الهدف» الذي تتحدّث عنه إسرائيل في «نهاية» معركة «السيوف» التي ما زالت تستعر على جبهة القتال في غزّة، ويمكن أن تستعر على جبهات أُخرى في الجبهة الشمالية وغير الشمالية، أيضا، إذ باتَ واضحاً أن إمكانيات انفجار الوضع في كامل الإقليم ما زالت قائمة، واستبعاد هذه الإمكانية ليس فيه من الحكمة من شيءٍ تماماً، كما أنّ التقرير بشأن حتميّته ينطوي على نفس الدرجة من الافتقار لذات الحكمة من القراءة لما يجري من تطوّرات مهما كان مرجّحاً.
وبالرغم من أنّ الأحاديث عن «الشرق الأوسط الجديد» هي أحاديث قديمة، وقد طُرحت بحدّة خاصة بعد غزو العراق على قاعدة «النصر» الذي حقّقته الولايات المتحدة الأميركية في «حرب الخليج الثانية»، وبُعيد سقوط النظام العراقي، إلّا أنّ الأمر نفسه كان قد طُرح من قبل شمعون بيريس، ومن قبل بنيامين نتنياهو نفسه في ظروفٍ مختلفة، وظلّ «الشرق الأوسط الجديد» مطروحاً على جدول أعمال الولايات المتحدة بصرف النظر عن المكوّن الحكومي في إسرائيل، وهو مشروع أميركي بالأساس، ولم تكن «اتفاقيات كامب ديفيد» سوى محطة من محطّاته، هذا إذا استثنينا الأطروحات التي سبقت تلك المرحلة، كونها لم تكن، ولم تطرح على جدول أيّ أعمال.
وحتى لا نغوص في التاريخ والتأريخ دَعُونا الآن نوضح أنّ أطروحة «الشرق الأوسط الجديد» قد طُرحت على جدول أعمال المنطقة، ومن قبل «الغرب»، ومن قبل بعض القيادات الإسرائيلية، إمّا بعد حروب إقليمية طاحنة، مثل «حرب حزيران 1967، «مشروع روجرز»، أو بعد «حرب أكتوبر»، «كامب ديفيد»، أو بعد «حرب الخليج الثانية»، أو في الفترات الفاصلة ما بين كلّ هذه الحروب الفاصلة، وها هي الأطروحة تطفو على سطح حرب ما زالت تدور رحاها بين قطاع غزّة وبين دولة الاحتلال.
نتنياهو نفسه، بعظمه وشحمه، قبل عدّة أيّام أو أسابيع فقط من اندلاع هذه الحرب الطاحنة «أسهب» في شرح معالم هذا «الشرق الأوسط الجديد»، واستعان «بالخرائط» المغرم باستخدامها في معظم العروض «الإعلامية» التي يلجأ إليها، و»بيّن» أنّ «التطبيع» مع إسرائيل ــ وقد أصبح واقعاً ــ وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية سيفتح الآفاق واسعةً أمام «الشرق الأوسط الجديد» بعد أن يتمّ، أو بعد أن «تمّ» تجاوز الشعب الفلسطيني وكلّ حقوقه، وبعد أن «ترسّم» تجاهل قضيته الوطنية، «بموافقة» عربية، وبقرار أميركي و»غربي» «معلن»، ونجاحه ــ أي نتنياهو ــ بإقناع العرب و»الغرب» على حدٍّ سواء بأنّ هذه «القضية» باتت محصورةً، ومحدّدةً بالاحتياجات الحياتية، والبحث «مستقبلاً» عن شكلٍ ما من الحكم البلدياتي، والإدارة الذاتية للسكان، وعلى أساس، لا قدس، لا دولة، لا قضية لاجئين، لا حدود، لا سيادة من أي نوعٍ كانت.
لا أعرف على ماذا يستند نتنياهو، وهو لم يخرج من حربٍ قد ربحها، ولم يتمكّن حتى الآن من إخراج إسرائيل من أزمتها الطاحنة، ولم يتمكن ائتلافه من تحقيق أيّ شيءٍ على الإطلاق كما يُجمِع كل المراقبين والمتابعين، بمن فيهم الإسرائيليون أنفسهم!
ولا أعرف إذا كان نتنياهو يدرك أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه يجد نفسه في ورطة أوكرانيا، بلا مخرج أو أمل بأيّ شكلٍ من أشكال حفظ ماء الوجه.
ولا أعرف فيما إذا كان نتنياهو يعرف أنّ الحلفاء الأقرب إليه في القارّة العجوز باتوا في وضعٍ لا يُحسّدون عليه من التفكك والهشاشة، بالمقارنة مع «وحدتهم» التي لم «يسبق» لها مثيل في الشهور الأولى، بل وحتى السنة الأولى من الحرب التي يخوضونها بدماء الشعب الأوكراني ضدّ روسيا؟!
وأفترض أنّ نتنياهو يطالع استطلاعات الرأي في إسرائيل، وأنّه على علمٍ بأنّ حزبه قد هوى في هذه الاستطلاعات من (32 مقعداً)، إلى (19 مقعداً)، والحبل على الجرّار، وأنّ «الائتلاف» لم يعد لديه سوى (45 أو 46 مقعداً)، والحبال كلّها على الجرّار.
وليس واضحاً لأيّ مراقب لجيش، مهما «أجاد» في تدمير غزّة، وتفنّن في قتل الأطفال والنساء كيف له أن يجابه آلافاً، وربما عشرات الآلاف من المقاتلين المدرّبين الذين باتوا على أعلى درجات المعنويات العالية، وعلى أعلى درجات الاستعداد للتضحية في ضوء المذابح الإسرائيلية ضدّ شعبهم؟
إذا تمكّنت إسرائيل من استئصال المقاومة في غزّة، وإذا استطاعت أن تهزم إيران وسورية و»حزب الله»، وبعض الميليشيات المسلّحة التي قد تدخل الحرب من العراق، وكذلك من اليمن عند درجةٍ معينة، وإذا رضيت الملايين العربية والإسلامية أن تنتهي هذه الحرب إلى النتائج التي تتحدّث عنها إسرائيل، وإذا بقيت الحالة الرسمية العربية على نفس وتيرتها وإيقاعها من هذه الحرب، فيمكن لإسرائيل أن تتحدّث عن «شرق أوسط جديد» بالمفهوم الإسرائيلي، وساعتها ستجد كلّ «الغرب» يصفق لها، ويبعث لها بالتهاني والمباركات!
فهل إسرائيل التي تبدو في حالةٍ من الفوضى الشاملة، وفي حالةٍ مزرية من المعنويات، وجيشها ليس في أحسن أحواله منذ قيام «الدولة» وحتى الآن، وحليفها مهزوم في أوكرانيا، وأعوانها في أوروبا الغربية قد فقدوا الحيلة والوسيلة.. هل إسرائيل قادرة فعلاً على الوصول إلى هناك؟
إسرائيل تحرق السفن، وتطرح من الأهداف ما هو فوق طاقتها لأسبابٍ باتت معروفة.
فنتنياهو لم يعد لديه ما يخسره، لأنّه خسر كلّ شيءٍ حتى الآن، فما يضير الغريق أن يبتلّ بالماء؟
و»الائتلاف»، أو ما تبقّى منه، أو بالأحرى من حُطامه قد خسر كلّ شيء، وهو يشعر ويلمس «بكلتا يديه» من اليوم فصاعداً، وعند هذه اللحظة بالذات فصاعداً لن تقوم له قائمة إذا لم يحقق معجزة أو حتى عدة معجزات.
زمن المعجزات ولّى، والمقامرة باتت الخيار الوحيد.
قلنا إن إسرائيل حرقت كلّ السفن عندما «أكّدت» أنّ الحرب البرّية أصبحت حتميّة، والحرب البرّية والحالة هذه، ووفق معطيات وتقديرات كثيرة محفوفة بأن تُدخِل إسرائيل في أزمةٍ كبيرة، ليس أقلّها الفشل العسكري، لأنّ الأمر سيتعدّى ذلك إلى تبعات سياسية واقتصادية وأخرى كثيرة، وعميقة وخطيرة ستحدث زلزالاً لم يسبق لإسرائيل أن تصوّرته في أسوأ كوابيسها، وخصوصاً إذا طالت واستطالت وقد يكون الخداع الاستراتيجي الذي أتقنته المقاومة في غزّة، ليس هو الخداع الأكبر والأهم، لأنّ المقاومة إذا كانت قد أعدّت نفسها للمرحلة الحالية من الحرب، والأيّام القادمة منها على صعيد الحرب البرّية، وإذا كانت قد حسبت التدحرج، ونسّقت مع الأطراف الأخرى حول سيرها، واللحظات الحاسمة فيها فإنّ إسرائيل ستكون في ورطةٍ أُسمّيها ورطة القرن.
القيادة الإسرائيلية التي أعمتها الغطرسة والغرور والاستعلاء والتبجُّح، وجعلتها تسقط بهذه السرعة، وهذه الحالة من فقد التوازن ليست مؤهّلة لأن تربح حرباً برّية، لأنّ خسائرها في مثل هذه الحرب ستكون على كل المستويات أكبر بكثير من الخسائر التي مُنيت بها حتى الآن.
الأمر الخطير والمقلق، ويجب أن يكون مقلقاً أكثر من أيّ وقتٍ مضى هو أنّ قيادة على هذه الدرجة من الهشاشة والضعف والخفّة يمكن أن تلجأ إلى ما هو أبعد من أيّ تصوّر، لأنّها خسرت كلّ شيء، وباتت عارية أمام المجتمع الإسرائيلي، بمتطرّفيه و»معتدليه»، إن كان ما زال في إسرائيل البعض منهم، وربما أنّ هذه القيادة اتخذت من القرارات ما يتجاوز كلّ الخطوط و»المحرّمات» الأمنية والسياسية على حدٍّ سواء.
إذا استبعد أحد هذه الاحتمالات، مهما بدت «مستبعدة» في إطار التفكير المنطقي، فإنّه سيقع في أخطر أنواع المحذورات.
إذا كان كلّ من هو معنيّ بالأمر، أي هذا الأمر، ما زال يعيش في أوهام الاستبعاد الذي حاولنا التأكيد والتشديد عليه فإنّ عليه أن ينتبه ويستفيق، وهذا التأكيد موجّه أكثر إلى الجميع، ودول ومنظمات «محور المقاومة» تعرف هذا جيّداً، «وربما تكون، وهذه أُمنية كلّ عربي ومُسلِم وكلّ حرٍّ في هذا العالم»، قد أعدّت نفسها لكلّ احتمالات الجنون الإسرائيلي بعد الهزيمة الماحقة التي ولّدت هذا الجنون.
أمّا إذا وقعنا كلّنا في محظور استبعاد الجنون، وكان «محور المقاومة» دون مستوى الإعداد المطلوب، والحسابات الدقيقة، فإنّ من حقّ نتنياهو وائتلافه المجنون أن يحلم، وأن يحاول على الأقلّ.