الحرب التي تتوّج حروباً وتُفسّرها..!!

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

توقفنا مرتين عند ساعات خمس صباح السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الجاري. اليوم الذي اقتحم حياة وذاكرة الناس في فلسطين والعالم، بطريقة لا تقبل التكرار، كما هو شأن اللحظات الفارقة في التاريخ. ونقف، اليوم، عند الحرب، التي أطلقت الساعات المذكورة شرارتها.
نفعل هذا من زاوية تبدو غائبة ومهملة في العالم العربي على نحو خاص، لا نتيجة تدني الكفاءة المهنية لدى المعلقين وطبّاخي المواقف والأفكار، ولكن لأن مالكي وسائل الإعلام (90 بالمائة منها في يد الإبراهيميين) يريدونها غائبة ومهملة. وإذا كان ثمة ما يستدعي تحليل الدلالة السياسية للمسكوت عنه، بمزيد من التفصيل، في إستراتيجية الغياب هذه. فإن في مجرد الكلام عن الزاوية المعنية (وهذا يكفي الآن) ما يوفر وعياً لا يُستهان به في هذا الشأن.
بيت القصيد: يصعب فهم الحرب الحالية دون رؤيتها كحرب تتوّج وتختزل سلسلة حروب أنجبها المشروع الأميركي الفاشل لهندسة النظام الإقليمي بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) الإرهابية في نيويورك وواشنطن، ودون رؤيتها كحرب تتوّج وتختزل حروباً أنجبتها ثورة مضادة موّلها وهندسها الإبراهيميون، بالتعاون مع شركاء محليين في الحواضر العربية، للقضاء على ثورات الربيع العربي (لا أحد يذكر الجرائم، والفاعلين، باستثناء "داعش" طبعاً، التي تبدو وكأنها هبطت من المريخ، ولا أحد يناقش مسؤوليتهم الأخلاقية والسياسية، وما يترتب عليها من محاكمات وتعويضات).
وعلى ضوء هذا كله، ثمة ما يبرر القول: لم تتعرّض منطقة في الكون، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، لحروب، وصدمات، ومؤامرات، وتدخلات خارجية، كما وقع للعالم العربي، الذي سلبته السلام والاستقرار ثلاثة عوامل هي: النفط، وإسرائيل، وطرق التجارة الدولية. ومن سوء الحظ أن التفاعلات الكارثية للعوامل الثلاثة أدت إلى انهيار المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي (بلاد الشام بجناحَيها المصري والعراقي على نحو خاص) بعدما أثخنتها على مدار العقدين الماضيين، ومنذ احتلال العراق، مشاريع الهندسة الأميركية، وحروب الثورة المضادة.
هذا لا يعني إنكار تشوّهات البنى الاجتماعية والسياسية، ولا يعني وضعها على عاتق قوى خارجية، بل يُرجّح فرضية أن التدخلات الخارجية، خاصة في زمن الحرب الباردة، لم تكن لتحقق ما حققت من نجاح دون تشوّهات كهذه. ولم تكن لتتمكن من العثور على شركاء محليين، في الظاهر والباطن، على هذا القدر من النذالة، دون خصوصيات تاريخية، وتشوّهات، أنجبتهم. (في لبنان، مثلاً، تُتهم النخبة الحاكمة بوضاعة أخلاقية وضعت البلاد والعباد على حافة الهاوية، بينما تغيب عن الاتهامات نفسها، وهي صحيحة، حقيقة أن هذا كله نجم عن صراع أكبر يدور على الأراضي اللبنانية بين الإبراهيميين، وقوى غربية من ناحية، وإيران من ناحية ثانية).
على أي حال، نصل الآن إلى فرضية وثيقة الصلة بالحرب على غزة: نجم عن فشل المشروع الأميركي للهندسة الاجتماعية والسياسية، وكذلك حروب الثورة المضادة، في مجابهة الربيع العربي، تقويض دول، وتفتيت مجتمعات، وانهيار منظومة الأمن الإقليمي، وتفشي فوضى المال والسياسة والسلاح والأفكار بطريقة غير مسبوقة منذ انهيار الدولة العثمانية، وبحث أقاليمها العربية عن خارطة طريق للمستقبل، تكفّلت برسمها القوى الإمبراطورية في حينها، البريطانية والفرنسية.
وبناء عليه، في ظل حالة الفوضى المريعة، هذه، صعدت ثلاث قوى هي الإسرائيلية، والإيرانية، والتركية، ولكل منها تصوّرات شديدة الخصوصية، والتناقض مع مثيلاتها، بشأن نظام الأمن الإقليمي الجديد، ضوابطه، وشروطه. وقد نجمت عن تنافسها، وحروبها في الظاهر والباطن، زيادة الفوضى، ومعها وتائر وحدة العنف. وفي السياق نفسه أسهم صراعها في ولادة ظاهرة غير مسبوقة هي الميليشيات المسلحة، والجهاديات العابرة للقوميات والحدود، إضافة إلى إحياء، وتمويل، تمركزات طائفية، ومناطقية، وقبلية، سبقت وجود الدولة المركزية، وبدا لوهلة من الزمن وكأنها من مخلّفات الماضي.
وطالما سبقت الإشارة إلى فوضى الأفكار (توهّم بعض الإبراهيميين لأنفسهم دور القوّة الإقليمية، مجرد وهم تدعمه شركات للدعاية تقبض الملايين، أكثر مما يدعمه الواقع)، وبما أن فكرة صعود القوّة الإقليمية (أو العالمية) وانهيارها لا تبدو مفهومة تماماً، ينبغي التذكير بسمة ملازمة لصعودها وهبوطها هي العنف. القوي يصعد بالسيف ويسقط به. وهذه المسألة ضرورية لتوضيح أمرين:
لا يصدر العنف الإسرائيلي، غير المسبوق، في الحرب على غزة عن دافع الانتقام، أو رد الاعتبار بعد ضربة موجعة، بقدر ما هي مهينة، وحسب، بل وعن ضرورة التذكير بما لدى القوّة الصاعدة من كفاءة الأذى وأدوات العنف أيضاً. وبهذا المعنى، فإن مكوّناً أساسياً من دوافع العنف لا تمليه ضرورات عملياتية، أو تقنية، بالضرورة، بل تحض عليه حسابات سياسية تذهب في اتجاهين: تذكير المنافسين، وكذلك الحلفاء، على حد سواء، بما لدى القوّة الصاعدة من كفاءة الأذى، وأدوات العنف.
وعلى خلفية كهذه، فقط، على وهج النار المشتعلة في غزة، والرسائل الضمنية الذاهبة في اتجاهين، تتجلى ملامح السلام الإبراهيمي بشكل أوضح، بوصفه خارطة طريق جديدة لإنشاء نظام للأمن الإقليمي يهندسه ويتزعّمه الإسرائيليون، ولا مكان فيه للمسألة الفلسطينية. فقبل اندلاع الحرب، بأيام قليلة، كان الحديث السائد عن تقدّم "التطبيع" بخطى حثيثة، وضرورة قيام إسرائيل بلفتة (تخيّل: لفتة) من نوع ما تجاه الفلسطينيين.
المهم: أشعلت الساعات الخمس في ذلك الصباح حرباً، تتموضع في تاريخ أعرض، وبدورها تُفسّر وتتوّج حروباً سبقت، وفي الحالتين (التاريخ والحروب) ما يسلّط ضوءاً كاشفاً على الرسائل المزدوجة للعنف، ناهيك عما يسمه من مبالغة في التوحّش. فاصل ونواصل.