كانت عملية السابع من أكتوبر.. تسمى بطوفان الأقصى، وحين بلورت إسرائيل ردها أسمته السيوف الحديدية.
ومع أول قصف من الجو لغزة، تجاوزت الوقائع التسميتين، لتنشأ تسميات أكثر واقعية، مثل حرب الإنتقام، وحرب التهجير، وحرب تصفية حماس، وحرب تصفية القضية الفلسطينية، والوقوف على حافة حرب إقليمية، ربما تجر إلى حرب عالمية..
حرب كثرت عناوينها وتشعبت امتداداتها، حتى صارت الأكثر أهمية في العالم، بما في ذلك حرب أوكرانيا، التي لم يعد أحد يأتي على ذكرها.
وفي غمار هذه الحرب متعددة العناوين وحتى الأهداف، يجري تركيز على مجرياتها العملياتية، والسؤال المركزي هو.. هل تجتاح إسرائيل غزة براً؟ وهذا يستدعي سؤالاً مركزياً آخر.. وهل لو فعلت ذلك ستتطور الأمور إلى حرب إقليمية؟
وفق الحالة المعنوية المتردية في إسرائيل، تبدو الحرب البرية أحد العلاجات المطروحة لترميمها، خصوصاً وأن التعبئة الملحة منذ بدء القصف الجوي وصلت حد أن تكون حتمية. غير أن ما بدا جلياً حتى الآن على الأقل، أنه إذا كان سهلاً اتخاذ قرار بذلك، إلا أنه من الصعب تنفيذه، ولذلك أسباب عديدة لعل أهمها.. التحفظ الأمريكي عليها، والذي أنتج خلافاً حاداً داخل مؤسسات القرار الإسرائيلي، وفي هذه الحالة يتضاعف التأثير الأمريكي، الذي ارتفع منسوبه أصلاً من خلال اقتحام الإدارة لمؤسساته حد المشاركة، ومن موقع السيد الأعلى في القرار الرئيسي.
لقد منعت هذه المشاركة جنوح المؤسسة العسكرية للمبادرة إلى حرب استباقية على حزب الله، وها هي تعمل جاهدة كي لا تتسع الحرب لتتجاوز مستواها الراهن: - حرباً تدميرية على غزة تحت عنوان تدمير حماس، وتراشقات مسيطر عليها مع حزب الله، وقد استعانت أمريكا من أجل ذلك بعمل احتياطي من العيار الثقيل، كإرسال حاملة طائرات إلى محيط الحرب الراهنة والمحتملة، وإرسال قوات ومعدات وتقديم أموال إضافية، وأولوية ذلك كله منع الامتداد إلى حرب إقليمية لا تناسب أمريكا التي رسمت سياساتها الاستراتيجية في اتجاهات مختلفة، ليس الحرب في الشرق الأوسط من ضمنها.
ومهما اختلفت العناوين وتطورت الأهداف المعلنة أو المستترة، إلا أن ما نشأ تلقائياً عن هذه الحرب، هو تقدم وضع القضية الفلسطينية من مهملة إلى قيد البحث، وعودة الحل السياسي للقضية الفلسطينية إلى نطاق أوسع ومستويات أهم وإزالة الغبار الكثيف الذي غلّف حل الدولتين وحوّله إلى مجرد شعار محتضر، يردده العالم دون بذل أي جهد للعمل من أجل تحقيقه.
على هامش الحرب المشتعلة على غزة، ورديفتها الدائمة وإن بوتائر أقل في الضفة، ظهرت وقائع جديدة أهمها بلورة موقف عربي موحد، تجلى في قمة القاهرة الدولية، قوامه الدفع باتجاه وقف الحرب على غزة، ولا يُنتظر أن تكون نتائجه فورية، وتقديم دعم فعّال لأهلها عبر الأمم المتحدة، وتثبيت تهدئة، ثم فتح المسار السياسي لحل القضية الفلسطينية بصورة "أعدل وأفعل". وهذا الذي يتبلور، وظهر أن له أنصاراً كثيرين وخصوماً كذلك، سيضع الكرة من جديد في الملعب العربي بعد أن أبعدتها النزاعات الداخلية والبينية عن مكانها الطبيعي، حين كان الجميع يعتنق مبدأ أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة.
الحرب على غزة واحتمالاتها.. لن تؤثر على مكانة القضية الفلسطينية الموجودة بوجود أكثر من خمسة عشر مليون فلسطيني يعتنقونها، ويوفرون لها ديمومة الحياة والتأثير.. وهم ليسوا معزولين عن عمق جماهيري هائل عربياً وعالمياً، وهذا ما ظهر جلياً في التظاهرات القوية التي اجتاحت عواصم العالم، وهذه التظاهرات عززت لدى المحايدين والمترددين والداعمين التلقائيين لإسرائيل، حقيقة مفادها.. أنه من دون حل سياسي للقضية الفلسطينية بعد وقف الحرب التدميرية الغاشمة على غزة، لن يكون هنالك أمن واستقرار في الشرق الأوسط، ولن ينجو العالم من عصف الحروب المتواترة وتأثيرها المباشر أمنيا وإقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً.
الألم عميق وشديد من فقدنا للالاف في غزة بالجملة، والالاف في الضفة بالتقسيط، غير أن هذا الألم ينبغي أن لا ينتج عويلاً ودموعا، بل جهداً فلسطينياً يليق بالتطور الكبير الذي وقع منذ السابع من أكتوبر هذا العام.
ما الذي ينبغي أن يفعله الفلسطينيون أثناء هذه الحرب وبعدها؟ هذا ما سيكون موضوع الجزء الثاني من هذه المقالة.