هُنا غزّة، هنا فلسطين، أهلها كانوا هُنا، وهم هُنا وسيبقون هُنا، يُدافعون عن حياتهم، وحقوقهم، ويصدّون عن الأمة العربية مخاطر إستراتيجية، لم تعد معالمها غير معروفة للقاصي والداني، حتى لو أراد بعض زعماء الأمة، عدم الاعتراف بالحقيقة.
في غزّة، يعيش الناس دقيقة بدقيقة، فالموتُ والدمار، لا ينتظر، ولا يترك مكاناً لأمن فردي أو جماعي. أمام أنظار العالم المتحضّر وغير المتحضّر تُذبح القيم، ويُذبح تراث الإنسانية، وتعيد مشاهد الدمار والقتل أهوال ما ارتكبته النازية والفاشية.
الفاشيون ليسوا استثناءً لا يتكرّر. فثمة من يحمل تراثهم، ويجدّد أفكارهم وممارستهم، التي تتبرّأ منها البشرية.
الموت في غزّة بالجُملة، إذ يندر أن تسمع خبراً عن استشهاد إنسان ما تعرفه أو لا تعرفه، ودائماً يجري الإعلان عن عشرات الشهداء والجرحى، وعن عائلات بأكملها، تُمسح من السجّل المدني.
ومع توارد أخبار القتل الجماعي، تتبلد المشاعر وتتجمّد الدموع في المآقي. لم يعد واجباً أن تجري مكالمة هاتفية لتقديم التعازي لأنّك في هذه الحالة تحتاج إلى مَقسم هواتف، بينما لا تسمح شبكة الاتصالات بأن تنجح في الوصول أكثر من مرّة أو مرّتين وبعد عشرات المحاولات.
قطعت دولة الاحتلال كلّ أسباب ووسائل الحياة، فبعد قطع الماء والكهرباء والدواء والطعام تنقطع الاتصالات وتتحول «الموبايلات» إلى ساعة أو آلة حاسبة لا حاجة لها.
المستشفيات لم تعد تعمل باعتبارها مكاناً للاستشفاء، فلقد تحوّلت إلى مقابر، وإلى دائرة تسجيل الموتى والجرحى، فيما تلاحقها التهديدات الإسرائيلية بالقصف لأنّها أضحت مأوى لعشرات الآلاف من الباحثين عن الأمان.
معظم هذه المستشفيات خرج عن الخدمة، وما تبقّى منها لا يستطيع تقديم الحدّ الأدنى من الخدمة، ومع ذلك ما بقي يتعرّض للتهديد بالقصف.
قبل أن تنفّذ إسرائيل تهديداتها بقصف ما تبقّى من المستشفيات، كما فعلت حين ارتكبت مجزرة مستشفى المعمداني، تقوم طائراتها بقصف المحيط القريب وتُلحق أضراراً جسيمة في مباني المستشفيات.
في غزّة، لم نعد نحصي أعداد الشهداء والجرحى، والمفقودين، فالمئات من هؤلاء، لا يزالون تحت الأنقاض، لا يستطيع أحد التقدم لإنقاذهم، أو التعرُّف على هويّاتهم.
وفي غزّة، أيضاً، لم يعد الهاربون من الموت، يهتمُّون بالسؤال عن منازلهم فالأهمّ هو البقاء على الحياة، بعد أن دمّرت الطائرات الحربية والبوارج والمدفعية معظم الوحدات السكنية في كلّ مدينة غزّة، وجباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، ولم تسلم من ذلك بقية المناطق في القطاع من شماله إلى جنوبه.
لم يعد الفلسطينيون في غزّة، ينتظرون الفرج من مجتمع دولي، تهيمن عليه الولايات المتحدة، ودول أوروبا الاستعمارية، التي تشارك في العدوان، فهؤلاء هم أصل البلاء، وأصحاب القرار، لكن عقابهم قادم على أيدي مجتمعاتهم.
أراد جو بايدن، أن يحقّق «إنجازاً تاريخياً»، فهو إمّا أن يحظى بورقة «تطبيع العلاقات» السعودية وإسرائيل، وإمّا أن يحقّق «إنجازاً أكبر وأخطر»، حيث يستهدف إزالة القضية الفلسطينية عن طريق استعادة الهيمنة على الشرق الأوسط، وإخضاعه لعمليات جراحية، تديم الهيمنة إلى عقود.
فشلت الإدارة الأميركية، وفشلت إسرائيل، وهُزم «التحالف الغربي» في غزّة، ومن غزّة التي شكّلت جداراً قوياً أمام تقدُّم هذا المخطّط الإجرامي.
لقد رفعوا بوضوح أهداف هذه الحرب، منذ الأيّام الأولى، حيث كان من المفروض أن يتمّ تهجير سكّان غزّة إلى سيناء المصرية والمؤشّرات كثيرة وجدّية على ما سيتبع ذلك من تهجير الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي «الداخل 1948» إلى الأردن.
فشلوا في تحقيق هذا الهدف المركزي والإستراتيجي، بسبب صمود الفلسطينيين ورفضهم الانصياع، وأيضاً بسبب جدّية الموقف المصري الرافض تماماً لهذا المخطّط.
لم تيأس آلة الإجرام الإسرائيلي، وظلّت توزّع الدمار والقتل في كل مكان مع التركيز على مدينة غزّة وشمال القطاع، لعلّها تستطيع حشر الناس في رفح وإجبارهم تحت القصف على اجتياز الحدود مع مصر، لكن هذا فشل، أيضاً، فلقد بقي مئات الآلاف في المناطق المستهدفة، بالإضافة إلى أنّ القصف لم يستثنِ منطقة في القطاع فالكل مهدّد.
أهل غزّة لن يكرّروا مشاهد الهجرة التي وقعت خلال حرب 1948، وهم وحدهم من دون الجيوش العربية السبعة التي خاضت الحرب في 1948، قادرون على الصدّ والتحدّي والصمود.
وفشلت الولايات المتحدة، التي تدير التحالف الاستعماري، وهي صاحبة القرار، في أن تحقق الهدف الثاني، الذي أعلن عنه بنيامين نتنياهو وهو مسح حركة حماس عن وجه الأرض.
كان عليهم أن يتواضعوا في تحقيق الأهداف، وها هم قد نزلوا عن قمّة الشجرة، فلقد بات المطلوب توغّلات محدودة، وليس اجتياح القطاع، ولا يتورّعون عن إظهار خوفهم من امتداد النيران إلى الإقليم، وما بقي من الأهداف فقط محاولة رسم مشهدٍ انتصاري لن يحصلوا عليه.
لا يمكن لكلّ ما تفعله إسرائيل من قتلٍ وتدمير، وتجويعٍ وحصار، أن يخفّف من وطأة الهزيمة النكراء التي لحقت بها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ذلك اليوم الذي رسم البدايات والنهايات، ورسمت معها صورة وهويّة الجيش الذي لا يُقهر، ودمّرت كلّ ادّعاءاته وهي في طريقها لرسم نهايات دولة شركة أمنية فاشية، خلقتها الدول الاستعمارية، لمنع نهضة الأمّة العربية والسيطرة على ثرواتها.
اليوم بات واضحاً أن نتنياهو أوّل الفاشلين الساقطين وسيسقط معه عدد من قادة الجيش والأجهزة الأمنية، وربما يسقط تحالفه العنصري الفاشي.
نتنياهو الذي تسبّبت ذاتيته في أزمة عميقة في المجتمع الإسرائيلي لن يسلم بسهولة، وهو بالتأكيد سيقاوم دفاعاً عن مستقبله الشخصي والسياسي، ولكن ذلك سيتسبّب في إضافة عاملٍ آخر في تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي وتأجيج الصراعات الداخلية إلى حدودٍ غير مسبوقة.
هم يتفرّجون على آثار الدمار والقتل الذي تمارسه آلتهم الحربية، ويشجّعون على المواصلة، ولكنهم لا يعرفون أنهم يدفعون جيشهم ومجتمعهم إلى الدمار.
سنتفرّج عليهم بعد وقف القتال، وسنقوم بإحصاء خسائرهم الفادحة في كلّ مجال، وسنتابع أعداد المهاجرين الراغبين في العودة إلى أوطانهم الأصلية.
وسيسقط بايدن، بسبب مسؤوليته عن الحرب، وسيعاقبه الرأي العام الأميركي، ولن يبقى له سوى تاريخ من الفشل في أوكرانيا وفي الشرق الأوسط، وانتمائه الصهيوني.
وسيسقط، أيضاً، رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي تنكّر لأصله الشرقي، وفضّل الالتحاق بركب ورثة الفاشيين. وستُعاقب المجتمعات «الغربية»، من وقفوا خلف إدارة فاشل مثل باراك أوباما.
إسرائيل كمشروعٍ استعماري في الشرق الأوسط بدأت تترنّح، وينهض الكثير من علامات الاستفهام، حول صلاحيتها، وقدرتها على ممارسة الوظيفة التي صنعوها من أجل تحقيقها.
هي فرصة أخرى للأشقّاء العرب، لتعزيز استقلاليتهم وحماية مصالحهم، أمّا من ارتضى شراء الحماية من إسرائيل فإنّ عليه أن يعتبر قبل فوات الأوان، فمن لا يحمي نفسه لا يملك القدرة على حماية الآخرين.
ومع تراجع وظيفة إسرائيل يتراجع الدور الأميركي، حتى لو انتشرت قواعدهم العسكرية في كلّ أرجاء الأرض.