نعالج، اليوم، ما يُفسّر الحرب، ويوفر، بالتالي، سياقاً موضوعياً لتحليل وفهم الكثير من المواقف، وردود الأفعال، وحتى الحيرة والحماسة والغضب، في الإقليم والعالم، منذ اندلاع القتال، وبعد توقفه بوقت طويل على الأرجح.
المقصود أن النظام الذي أنشأه الإسرائيليون في الضفة الغربية وقطاع غزة (منذ: أوسلو 94، أو الانتفاضة الثانية 2002، أو استيلاء حماس على غزة 2007، ولك أن تختار ما شئت، فالخلاف بشأن التواريخ يبدو أكاديمياً إلى حد بعيد في هذه اللحظة بالذات) والذي تصدق عليه تسميات مختلفة (على رأسها نظام الأبارتهايد) قد وصل إلى طريق مسدودة منذ الدقيقة الأولى للقتال، وأن مسؤولية اندلاع الحرب تقع على عاتق صنّاع النظام نفسه.
فلنحتفظ في الذهن، هنا، بأننا نتكلّم عن أمرين اثنين هما: النظام المفروض على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة كبيئة موضوعية أنجبت الحرب، وأن على عاتقه تقع مسؤوليتها السياسية، والأخلاقية. وإذا كان في الأمرين ما يوفر للناطقين الفلسطينيين، في هذه اللحظة بالذات، ما يكفي من المرافعات في الإقليم والعالم، فإن فيهما ما يوفر مرجعية ضرورية لاستخلاص الدروس السياسية في اليوم الذي يلي الحرب، أيضاً.
لذا، لا ينبغي أن تغيب للحظة واحدة حقيقة أن ما يُوصف بالانقسام لم ينجم عن عمى البصر والبصيرة، الذي أصاب الفلسطينيين وحسب، بل ونجم، أيضاً، وفي المقام الأوّل، عن سياسات إقليمية ودولية، استثمرت فيه، وأسهمت في تكريس وحصاد ما ترتب عليه من نتائج أصابت الحقل السياسي الفلسطيني بالشلل، وعطّلت التطوّر الطبيعي لمؤسساته التمثيلية، وطبيعة وموضوعات السجال بين تجلياته الفصائلية والأيديولوجية.
وهنا، نسوق مثلين لتعميق فهمنا للانقسام (هذا الفهم ضروري للفكرة الختامية في هذه المعالجة): في مقابلة مع يديعوت أحرونوت (15 تشرين أوّل 2023) يُعقّب آفي اسخاروف، الموصوف بالخبير في الشؤون الفلسطينية على الحرب بما يلي:
"منذ العام 2009، كان الوسط السياسي يقول لنا نحتاج لتقوية حماس، وإضعاف السلطة الفلسطينية". ويوم أمس الاثنين (30 تشرين أوّل 2023) نشر السفير القطري في واشنطن مقالة في وول ستريت جورنال قال فيها إن الدوحة استضافت قيادة حماس بطلب من الأميركيين، وإن أموال الدعم التي أرسلوها إلى غزة، على مدار سنوات، تمت بالتنسيق مع الإسرائيليين والأميركيين.
على أي حال، ثمة ما لا يحصى من الشواهد للتدليل على أن وجود وانقسام مركزين لتمثيل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. الأوّل، أي السلطة الفلسطينية، أنجبته اتفاقات دولية، والثاني، أي سلطة حماس، فرضته جماعة مسلحة تنافس على الشرعية والتمثيل بقوّة السلاح، كان أبعد وأعقد مما يعتقد أصحاب الكلام الساذج، والنوايا الطيبة، عن "الانقسام". لذا، فلنحتفظ بفرضية كهذه في الذهن، طالما أن لا غنى عنها في تحليل ما كان، وما سوف يكون.
ومع ما سبق من فرضيات نصل إلى الفكرة الختامية: نجمت عن وجود مركزين منفصلين (لا بالمعنى الجغرافي بل والأيديولوجي، أيضاً) يتنافسان على الشرعية والتمثيل، وفي ظل نظام للتحكم والسيطرة فرضه الإسرائيليون (منذ أوسلو، أو الانتفاضة، أو الانقلاب، اختر ما شئت) وكان الفصل العنصري سمته الرئيسة، صورتان للفلسطينيين: المغلوب على أمره (في الضفة الغربية) الذي تسهل رشوته باللفتات والفتات، رغم بطولات فردية يجترها جيل جديد، والمكافح، ولكن قليل الإمكانيات والحيلة (في غزة) غير المعترف به في الإقليم والعالم، الذي يتعرّض لتقليم الأظافر، أو "جز العشب" التعبير المفضّل لدى الإسرائيليين، من وقت إلى آخر.
واليوم، بأثر رجعي، يبدو أن الصورتين كانتا ضرورتين لتسويغ نظام الأبارتهايد وديمومته. والأهم من هذا كله (وفيه الكثير من الدلالات والشواهد المدهشة) أن قوى مختلفة في الإقليم والعالم قبلت الوضع القائم، وتأقلمت معه، بل وأسهمت في تسويغه وديمومته (ناهيك عن تمويله) إلى جانب الإسرائيليين، وبما لا يناقض أو ينقض سياستهم، حتى وإن اختلفت الأسباب.
وبما أن العالم يفتقر، فعلاً، إلى وجود زعامات من قطع كبير، يمكن أن يفهم أصحابها الحالة الشنيعة للنظام المفروض على الفلسطينيين واستحالة ديمومته (ناهيك عن تكلفته الإنسانية المروعة) ومع انفصال السوق عن القيم في زمن العولمة، وخاصة في أكثر تجلياتها الأميركية والإبراهيمية بذاءة، بدا النظام المفروض على الفلسطينيين وكأنه خير المراد من رب العباد.
وما تجدر ملاحظته، في هذا السياق، إمكانية التأريخ للنظام المذكور بالانهيار التدريجي للحواضر العربية بعد احتلال العراق، والهجمة الارتدادية للثورة المضادة بعد ثورات الربيع العربي. وقد نجم عن هذا كله انتقال مركز الثقل من المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي إلى هوامش على أطرافه.
وما تجدر ملاحظته، أيضاً، أن الفترة الزمنية للنظام المفروض، بصورتيه، ومركزيه، وما نشأ خلالها من تحوّلات إقليمية ودولية، كان لها بالغ الأثر على الفلسطينيين، هي الأسوأ في حياتهم، بكل المعاني المحتملة السياسية، والثقافية، والنفسية، بالتأكيد. وهي الفترة نفسها، التي بدت في عيون الإسرائيليين وكأنها الأفضل في كل تاريخهم السياسي، على الرغم من صعود اليمين القومي ـ الديني، ومخاطر الوقوع في وهم أن السلام ممكن في الشرق الأوسط دون الفلسطينيين.
وكل ما يمكن أن يُقال الآن: سقط النظام المفروض على الفلسطينيين بطريقة مُفزعة للإسرائيليين، وبأثمان باهظة بالنسبة للفلسطينيين أنفسهم. الوضع القائم لم يعد قابلاً للحياة، ولكن ملامح اليوم الذي سيلي الحرب لم تتضح بعد. فاصل ونواصل.