لم نكن نتمناها له، ولم نكن بوارد النقد المباشر لأي كان في خضم المعركة، فما بالك والمقصود هنا خطاب حسن نصر الله في جمع كبير من أحبائه وأنصاره سواء الذين اصطفت كراسيهم في لبنان ينتظرون بوله، أوالذين ترقبوه بعيون زائغة وقلوب واجفة عبر العالم.
لم اكن أتمنى له أن يُسقط آخر أمل كان يتشبث بها كل الراغبين بانتصار النضال والمقاومة والثورة، وبالتالي ما ظن الكثيرون بحسن نصر الله الا خيرًا إذ لم يتوقعوا أن يكون وقع الكلمات المفخمة والإشادات المعظمة والتاريخ المجيد هو الغالب على الخطاب في ظل الدم النازف والشهداء قد اقتربوا من الآلاف العشرة وحيدين في ظل الصمت العربي والعالمي المريب. والى ذلك لا يجد الاحياء منهم الوقت للعق جراحهم او تضميد آلامهم او البكاء على أحبابهم
لم أرغب أن ينحسر التأييد للمقاومة وفكرة النضالية وتحرير فلسطين في أعقابها بمجملها الى ما تحت الصفر، فيضحك أنصار الاعتدال الى حد الاستخذاء للإسرائيلي على حساب الفكرة لا المحور.
ولم أرغب أن يفقد الطفل تحت االدمار الأمل ولو بالتلويح! فما كان لإشارة اليد التي هددت ونفذت حماية للمراقد الشيعية في سوريا بشبيهة أبدًا بما حصل من خطاب نصر الله تجاه فلسطين ومراقد الشهداء الانبياء في فلسطين وقطاع غزة الأبي.
لست من متابعي الخطابات ولا النظر على الرائي (التلفزة) ولكن عملية التشويق السينمائية أو المسرحية غير المسبوقة لخطابه مع ما تراكم من أفانين الجذب والدعاية للموقف قد جعلتني أحضر الخطاب على غير عادتي فأنا بالقراءة جدير وبسطوع الشاشة لست أسير.
لم أعتقد أن التلاعب بالكلمات واتقان مهارة الحديث يصل الى هذا المستوى من الاستخدام الملتوي الذي فاق ما كان يفعله خطباء أثينا القديمة مثل ديموستينس، فهو فعلًا من هذه الزاوية حاول أن يأسر ويؤثر ويصيب هدفه بتحويل الذهن من مساحة أو مساحات الى أخرى، ولكن ما أثارني وأعجبني أن ردود الفعل كانت كاشفة للحقيقة ما يؤذن بعصر الجماهير
قال نصر 5 كلمات برأيي لا سادس لها أولا أن إيران لا علاقة لها البتة، وثانيها: أن ما حصل لا علاقة لنا به أيضًا، وثالثًأ الحدث صناعة فلسطينية خالصة، ورابعًا نحن دخلنا الحرب من اليوم الاول وهذا ما لدينا ونقطة واول السطر، وخامسًا أنقذوا غزة فهي تموت.
عبر الكثيرون عن الاحباط الشديد وخيبة الأمل فيما قاله نصر الله فلم يكن المتوقع بحجم الحاصل أبدًا. لاسيما مع سيل التصريحات المتضاربة وعمليات التشويق خاصة مع الدعاية التي سبقت الحدث من حركة نصر الله القصيرة أمام راية الحزب بثواني معدودة بالشريط المرئي، وهي التي أعطت الانطباع أن القادم عظيم وفعلًا كان عظيمًا بحجم الاحباط والخذلان للجماهير وتحطم آمالها! بل وكان خطابًا باهتًا تضمن التخلي عن المسووليات كقيادة ل"محور الممانعة"، ومن المفترض بالمحورر أن قضيته الرئيسة فلسطين، فما يعني الجماهير المنكوبة والتي ترفع رأسها متعطشة لشربة ماء، من سرديات التاريخ والجغرافيا والألفاظ المفخمة، والدماء للركب!
لم أكن أتمنى أن يكون الانطباع الاول للناس عن الخطاب (كان الخطاب في 3/11/2023) هو الخذلان، والذي رأي فيه البعض استخفاف رغم عِظم الكلمات وبلاغتها، ورأي به الاخر تخلي عن أو تهرب من المسؤولية. فأنتم من قام بالحدث (دبروا حالكم/ رأسكم) ونحن لكم السند رغم أنكم لم تُخبرونا وهذا خطأكم أنتم، لا نحن! فنحن لن نشارك بما لم نخطط له ولم نُستشر به أصلًا، مما كان من حقيقة الكلام الذي فيه من اللوم المبطن بالتعظيم الكثير. فيا ليته صمت لكان الأمر أهيب.
أكثر من ساعة ونصف من الخطاب كان فيها نصر الله يحاول أن يبرر ما تم النظر اليه من جماهيره انسحابًا من ساحة المعركة المحتدمة، وفعلًا أتقن معالجة الكلمات وقال ما بين السطور أكثر بكثير مما قاله في الساعة والنصف. ورغم كل ذلك ففي ظني أنه عبّر عن انعدام الإرادة وفقدان القرار حين قال (كل الاحتمالات مفتوحة) وليس كما فهمه -أو يريد أن يفهمه- البعض الآخر تهديدًا أو وعيدًا إذا فعلتم كذا سنفعل كذا، وما تحميل المسؤولية للعرب والعالم في إنقاذ قطاع غزة وما أسماه خطأ (شعب غزة) وهو الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة، الا تحقيقًا للهدفين الوحيدين الذين وضعهما وهما وقف إطلاق النار وانتصار "حما.س"، فإن فهمنا الأولى، فلم نفهم ما يقصد بالثانية. وكان أمل مريديه أن الانتصار يكون ب"وحدة الساحات" التي تفرقت شذر مذر!
في تفاؤل حذر لأحد الأصدقاء قال أتمنى أن يكون الخطاب احترازيًا وباطنيا أكثر بمعنى تهدئة جبهة العدو وتشتيت ذهنه لفترة لأن القادم من حز.ب. الله أعظم، وإن كان هذا الاحتمال يسقط حتى الآن مع تعليقات بعض الإسرائيليين الفرحة: أن الخطاب كان عقلانيًا!.ما يفهم معه أن رسالة العقلانية تعني لهم أن الخطر الكبير الذي كان يتهددهم من الشمال قد زال، لذلك كان الخطاب معقولًا، ويعطي إشارة لاستمرار العدوان وشراسة الانتقام ورائحة الدم التي علقت بجلود الإسرائيليين القتلة الفاشيين، وداعميهم من الأب والام أي كل من بريطانيا وامريكا خاصة.
قال وزير الحرب الصهيوني، يوآف غالانت تعقيبًا على الخطاب، إن حزب الله لا يريد تحويل بيروت إلى غزة. وكتب المغرد الإسرائيلي أوري غولدبرغ على منصة "إكس" (تويتر سابقا) أن ما يقوله نصر الله ضمنيا أن ما قامت به حماس "مغامرة، وهي مدعوة لمواجهة تداعيات هذه المغامرة". وهو ما ذهب إليه آخرون، مثل عيران شير، الذي قال إن خطاب نصر يوحي بأنه ترك غزة وحدها، وهو ما سيزيد الإحباط هناك. وقال يوسي يونا عضو الكنيست السابق في لقاء سكاي نيوز عربية: من مشاهدتي للخطاب، يبدو أن حزب الله نفسه لا يريد جبهة جديدة للحرب. وكتب زياد عيتاني مقالًا بعنوان فاقع قبل الخطاب بساعات وهو: المهدي وأرطغرل لن يأتيا إلى غزّة؟ كما كتب خير الله خير الله قبل يوم من الخطاب تحت هذا العنوان: إيران تقبض من أميركا... ثمن ضبطها الجنوب؟
علق لي أحد الاصدقاء قائلًا "البقية في حياتكم" يقصد الإشارة لكل دعاة أن "محور المقاومة والممانعة" سيتحرك لنصرة فلسطين وأهلنا في غزة أو المقاومة وانتظروا الخطاب وإشاراته. ورغم كل ما سبق فلقد نطق نصر الله بالحكمة المستفادة من الدروس بعد أن تحلل من ذنب عدم النصرة، فلسنا من قرر ولسنا من نفذ حين قال ل"حما.س" وكل من اشرأبت عنقه، بكل وضوح أن الانتصار لا يأتي بالضربة القاضية وإنما يأتي بالنقاط!