بماذا نفسّرُ موقف الديمقراطيات الغربية...!!

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

نسعى اليوم لإلقاء ضوء على تأييد وتضامن ودعم الديمقراطيات الغربية لإسرائيل، منذ اللحظات الأولى لاندلاع القتال، وحتى يوم الناس هذا، بداية من زيارات تضامنية من جانب رؤساء دول وحكومات، ومروراً بالمساعدات المالية والعسكرية، وانتهاء بتعبئة الجيوش، والتلويح بحاملات الطائرات، والغواصات النووية، ناهيك عن التعبئة السياسية والإعلامية بطبيعة الحال.
والصحيح أن وصف هذا الدعم بغير المسبوق لا يفي بالغرض، لأنه يبدو أبعد وأعقد من هذا بكثير.
وبما أنه كذلك، فمن غير المفيد اختزاله في دافع أو دوافع قليلة، والأسوأ إذا كانت مستهلكة، وروتينية، من نوع "كراهية العرب والمسلمين".
لذا، فلنفكر في أمر كهذا بوصفه محصلة حسابات أكثر تعقيداً من الحب والكراهية، أي بوصفه خلاصة موضوعية لقائمة طويلة من الأسباب القابلة للتعريف والتصنيف.
وأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، أن لا وجود لحرب منفصلة، أو معزولة، عن محيطها الإقليمي والدولي. لذا، تبدو الحرب في أوكرانيا في طليعة الأسباب التي تفسر استنفاراً غربياً سريعاً وحاسماً في الشرق الأوسط صبيحة السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي.
صدرت تلميحات غربية، ووجّهت أصابع اتهام إلى الروس، في الأيام الأولى لاندلاع القتال.
وعلى الرغم من صعوبة البرهان، ولكن بالمنطق: اندلاع حرب في الشرق الأوسط يحرف الأنظار عن حرب تدور في شرق أوروبا، وصدور ردود أفعال أميركية سريعة وحاسمة يؤكد تصوّرات أميركا عن دورها القيادي في العالم، ويؤكد وحدة وتضامن دول الناتو، خاصة بعدما زعزع ترامب الثقة في جدوى ومستقبل الحلف.
وإذا أضفنا إلى هذا كله: خصوصية العلاقة بإسرائيل، والانتخابات الرئاسية القادمة في أميركا، يتضح فهمنا لاستحالة فصل الحروب عن محيطها الدولي بصورة أفضل.
هذا كله حتى دون أن نصدر حكماً ينفي أو يؤكد دوراً للروس في الحرب الحالية.
ومع الانتقال من الدولي إلى الإقليمي، وكلاهما وثيق الصلة بالآخر، فلنتأمل عدداً من الفرضيات المتشابكة: حتى يوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 بدت أشياء وكأنها من مخلفات الماضي (1) فلسطين بوصفها مدخلاً للحرب والسلام في الشرق الأوسط. (2) فلسطين بوصفها قضية مركزية للعالم العربي.
وفي المقابل: بدت فرضيات بديلة مضمونة وراسخة (1) فقدت المسألة الفلسطينية دلالتها القومية والسياسية، صارت مشكلة إسرائيلية داخلية، ومسألة إنسانية (2) سلام إبراهيم بوصفه نظاماً جديداً للأمن الإقليمي، مع دعامات اقتصادية، وسياسية وعسكرية، وثقافية، تعزز نفوذ القوّة الإسرائيلية، وتعرقل تمدد ونفوذ القوتين التركية والإيرانية (3) خروج آمن للأميركيين من الشرق الأوسط، مع تكريس وكلاء محليين على رأسهم القوّة الإسرائيلية الصاعدة (4) إمكانية التعايش بأثمان محتملة مع، بل وحتى الاستفادة من، منغّصات من نوع حزب الله في لبنان، وحماس في غزة، وآيات الله في طهران.  
ارتطمت كل الفرضيات والفرضيات المضادة بالأرض منذ اللحظة الأولى لاندلاع القتال. لذا، بدلاً من كلام مستهلكي نشرات الأخبار، والمفتونين بالبيانات، عن وحدة الساحات، ومتى يتدخل هذا الطرف أو ذاك، ولماذا لا يفعل (دون التقليل من أهمية أسئلة كهذه) ربما نعثر على تفسير لردود الأفعال، التي وصفناها بغير المسبوقة، في انهيار كل ما ذكرنا من فرضيات وفرضيات بديلة بطريقة مُفزعة ومفاجئة، ومن حيث لم يتوقع أحد أو يحتسب.
ونعرّج الآن على مسألتين تستدعي كلتاهما قدراً من التوضيح، فما تقدّم لا يفسّر كل شيء، ولا يختزل قائمة طويلة من الدوافع والمُحرّضات. المقصود (1) أن ردود الأفعال غير المسبوقة من جانب الديمقراطيات الغربية، التي استدعتها، كما أسلفنا، حسابات إقليمية ودولية، ناهيك عن علاقة شديدة الخصوصية بإسرائيل، لم تكن لتتجلى بكل هذا المزيج من العنفوان والتحيّز والغضب، لولا إدراك مسبق لحقيقة أنها تعبّر عن رغبات دفينة لدى عدد يصعب حصره من النخب الحاكمة والسائدة في العالم العربي، الإبراهيمية منها على نحو خاص.
بمعنى أكثر مباشرة: شكّل "العرب" في وقت مضى نوعاً من الدرع الواقي للفلسطينيين، وهذا ما لا نشهد الآن نهايته وحسب، بل ونشهد انخراط البعض من هؤلاء في الحرب على الفلسطينيين، أيضاً.  
والمقصود (2) أن حركة حماس، التي تحصّنت في قطاع غزة، بعد الانقلاب على السلطة الفلسطينية، لا تحظى بالشرعية في الإقليم والعالم، باستثناء دول قليلة (منها قطر التي استضافت قادتها بطلب من الأميركيين، وموّلتها في غزة بالتنسيق مع نتنياهو) وأن انتسابها إلى الإخوان المسلمين، والنظر إليها كقوّة من قوى الإسلام السياسي، يضفي عليها دلالات سلبية تماماً في نظر قطاعات واسعة من الرأي العام في الديمقراطيات الغربية.  
والواقع أن هذه المسألة لن تكون مفهومة بشكل جيّد ما لم نضع في الاعتبار التحول الهائل الذي طرأ على مواقف الناس العاديين في الديمقراطيات الغربية، وفي مناطق كثيرة من العالم، من الإسلام السياسي (وحتى من "الإسلام" نفسه) بعد هجمات القاعدة في نيويورك وواشنطن، وصعود الدواعش كظاهرة عدمية متوحّشة ومُفرغة من كل قيمة إنسانية.
لم نتكلّم بعد عن الثابت والمتغيّر في ردود الأفعال الإسرائيلية، فما زالت في طور التكوين. وكذلك عن التناقض الفادح بين قيم الديمقراطيات الغربية، وما حدث ويحدث في غزة من فظائع غير مسبوقة، على مدار شهر من الزمان.
من المؤسف أن مشوارنا طويل، وأن ما ينبغي أن يُقال يتقدّم مع الواقع، ليتفاعل معه، دون أن يسبقه، أو يتأخر عنه. فاصل ونواصل.