هذه واحدة من أكثر المعارك الكبيرة التباساً في كامل تاريخ الحروب الحديثة، لأنّها مختلفة عن أي حروب في الكثير من المعالم، وفي أكثر منها من حيث أطراف المعادلة، ومن حيث التبعات والنتائج طبقاً لهذه الاختلافات بالذات.
الحرب التي سارع وتسرّع بنيامين نتنياهو بإعلانها ضدّ حركة حماس وبهدف سحقها واجتثاثها، وتدمير بناها العسكرية، وتصفية وجودها السياسي في قطاع غزة، وبالنظر إلى ما تحوّلت نحوه هذه الحرب من أهداف أصبحت حرباً على الشعب الفلسطيني، وعلى وجوده وهويته وكيانيته الوطنية، وبذلك تحوّلت إلى حربٍ على أهدافه وحقوقه الوطنية فإنّ مقياس النصر والهزيمة من زاوية المخطّطات الإسرائيلية بات أكبر من إسرائيل، بل وربّما أنّه أكبر من الولايات المتحدة و"الغرب" كلّه.
والسبب الواضح في ذلك هو أنّ تحقيق الأهداف الإسرائيلية من هذه الحرب بات يتطلّب استعداد الولايات المتحدة، و"الغرب" كلّه لخوضها حتى النهاية، والاستمرار بها وحسمها كلّياً.
والحقيقة أنّ الأهداف التي أعلن عنها نتنياهو، والأهداف التي تدحرجت نحوها هذه الحرب هي من النوع الذي يستحيل تحقيقه.
إذ لا يمكن استئصال واجتثاث حركة مقاومة تتمتّع بتأييد شعبي، ولها امتدادات وترابطات مع تيّار سياسي كبير على مستوى كل الإقليم العربي، إضافة إلى ما لدى الحركة من تحالفات متينة مع دول إقليمية مؤثّرة، ومن تعاون وثيق مع أحد محاور الواقع العربي والإقليمي، والذي يُعرف بـ "محور المقاومة" أو "الممانعة".
ويزداد "الانتصار" الإسرائيلي، والأميركي "الغربي" صعوبة، إن لم نقل استحالة لأنّ المضي قُدماً من قِبَل إسرائيل وحُماتها ورُعاتها سيعني عند درجةٍ معيّنة توسيع نطاق الحرب، وتوريط كامل الإقليم في حربٍ ضارية قد تتحوّل إلى تهديد وجودي مباشر لإسرائيل، وقد تكون نتائجها كارثية على الدور الكوني لـ"الغرب"، إضافة إلى ما يمكن أن ينتج عنها من ويلات، ومن خرائط جديدة، ومن شبكة جديدة من التدخّلات الجيوسياسية التي يصعب التحكُّم بها.
صحيح أنّ القيادة الإسرائيلية ستغامر بكلّ شيءٍ من أجل جرّ الولايات المتحدة، وكذلك بعض دول "الغرب" إلى هذه الساحة بالذات، خصوصاً أنّ هذه القيادة قد حرقت كلّ أوراقها، الآن، وكانت قد أحرقت كلّ سفنها قبل ذلك، إلّا أنّ الولايات المتحدة و"الغرب" قد لا يجدون مناص من الانقلاب على هذه القيادة إذا شعروا أو استشعروا باقتراب لحظة التوريط الكبيرة، والذي يمكن أن يقدموا عليه بقرارٍ منهم فقط.
ولم يعد أمام القيادة الإسرائيلية الآن إمّا التراجع، و"التواضع" في تحديد الأهداف القابلة للقياس عينياً، أو مغادرة الحلبة السياسية بأسرع وقتٍ ممكن لأنّ "الغرب" يعرف على ما يبدو الفرق بين منع هزيمة إسرائيل، وبين تجاوزها للأهداف "الغربية".
والحقيقة أنّ "الغرب" مستعدّ لخوض الحرب دفاعاً عن إسرائيل مهما كان الثمن، ولكنه ليس مستعداً لخوض حرب كهذه دفاعاً عن القيادة الحالية في إسرائيل، خصوصاً أن هذه القيادة أصبحت على درجةٍ كبيرة من الحماقة والجنون، وعلى درجةٍ أكبر من الخفّة والارتباك.
والحقيقة، أيضاً، أنّ "الانتصار" الإسرائيلي في هذه الحرب بات في حالة السيولة" وقد "يتطوّر" هذا الانتصار إلى الحالة الغازية إذا لم يتمّ تحديد واضح، وممكن، وقابل للتحقيق لأهداف ملموسة من حالة الصلابة.
بقي لإسرائيل من أجل أن "تظفر" بانتصارات قابلة للقياس أن تتمكّن من تدمير البنى العسكرية لـ"حماس"، وأن تُجبِر قياداتها السياسية على القبول بالشروط الإسرائيلية بـ"التنحّي" عن حكم القطاع.
هذان الهدفان يحتاجان إلى وقتٍ طويل من ناحية، ويحتاجان إلى "ضمان" عدم توسّع الحرب، وهما بهذا المعنى محفوفان بـ "مخاطر" كبيرة على إسرائيل وحُماتها، وأصبح الوصول لهما أو تحقيقهما يحتاج إلى "ردع" كامل للجبهات القابلة للتوسيع، ويحتاجان إلى حسم الكثير الكثير بأسرع ما يُمكن.
وهذا يعني من زاوية ما يجري الآن أنّ الولايات المتحدة و"الغرب" كلّه عالقون عند هذا المفصل بالذات.
لقد أعطى "الغرب" كلّه وقتاً كافياً، بل وأكثر من كافٍ علّ إسرائيل تُنجِز تدمير البنى العسكرية لـ"حماس" على الأقل، وعلى أن يُترك أمر "تنحيتها" عن الحكم في القطاع لتدابير أمنية كشرطٍ لوقف إطلاق النار، وعلى أن "يُعهد" إلى الإقليم العربي بالمشاركة في هذا "التدبير" تحت غطاء أهمية وقف إطلاق النار.
لم تتمكّن إسرائيل من إنجاز الهدف الأوّل حتى يُصار إلى وضع التدابير المباشرة لإنجاز الهدف الثاني، والوقت لم يعد مفتوحاً كما كان، و"الساحات" يزداد دخولها في الحرب تدريجياً، وليس هناك من أمل بإنجازات سريعة، و"حزب الله" يلعب مع الإسرائيليين لعبة ذكيّة، أو يتلاعب بها ــ أي إسرائيل ــ وإسرائيل لن تذهب إلى مهاجمة لبنان من دون موافقة الرئيس الأميركي جو بايدن، وحتى "الغرب" لن يتقدم بخطوة واحدة للمشاركة "بالتدابير" دون خطّة سياسية للحل السياسي، وإسرائيل ليست بوارد الدخول بالخطّة السياسية قبل إنجاز الهدفين معاً، فما العمل، إذاً؟
إسرائيل بدأت بمخطّط "الترانسفير" الذي اصطدم بالعارضتين المصرية والأردنية، ثم تحوّلت الآن إلى التهجير الداخلي كمرحلةٍ انتقالية من خلال تحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة فيها، وهي تستمرّ على أمل أن تتحوّل عملية التهجير إلى إمكانية بموافقة وتسهيلات من "الغرب" دون أن تُنجز "أهدافها"، وهو ما يعني أنّ الهدف المخفي، وغير المعلن ليس بالضرورة القضاء على البنية العسكرية لـ"حماس"، وليس التغيير المباشر للحالة السياسية في القطاع وإنّما الإمعان في القتل والتدمير والتهجير لكي تُصبح التدابير لاحقاً، ليس البحث عن حلٍّ سياسي، وإنّما تحويل وقف إطلاق النار إلى المدخل لنزع سلاح "حماس"، وتحويل الحلّ السياسي إلى مسألة مُؤجّلة إلى ما بعد التدابير التي تؤمّن إزاحة "حماس" عن الحكم والسلطة المباشرة في القطاع.
وإلّا كيف نُفسّر إصرار "الغرب" على خطّة "رفض وقف إطلاق النار"، ورفض أيّ حديثٍ حتى عن الهُدَن إلّا وفق الاعتبارات الإسرائيلية، بل وحتى الموافقة الواضحة على خطط التهجير باتجاه الجنوب؟
إسرائيل تعرف أنّ الحرب الطويلة ستدمّر كلّ أهدافها، وإسرائيل تعرف أنّ جرّ الولايات المتحدة و"الغرب" إلى حربٍ إقليمية لم يعد سهلاً، وإسرائيل تعرف أنّ القضاء على البنية العسكرية لـ"حماس" محفوف بمخاطر توسيع الحرب، وأنّ مهاجمة لبنان من دون موافقة "الغرب" هو بمثابة مغامرة قاتلة، ولهذا كلّه ليس أمام إسرائيل سوى القتل والتدمير والتهجير بانتظار أن تتحقّق أهدافها لاحقاً، وفي إطار حلول "أمنية"، وتدابير أمنية، وترتيبات تحقق لها الأهداف.
الولايات المتحدة تعمل تحت الطاولة لتحقيق أهداف إسرائيل، ولكنها ستكون مُجبرة على إزاحة الحكومة الإسرائيلية، ومُجبرة على ربط "الأمني" بالسياسي بعد إزاحة "شلّة" نتنياهو وكلّ أعوانه.
وتأمل الولايات المتحدة من خلال ذلك بإعادة ترتيب منطقة الإقليم بما يُعوّض الفلسطينيين عن خساراتهم البشرية والعمرانية الهائلة، بحلٍّ سياسي على هيئة "حكم ذاتي" موسّع ممنوع عليه أبداً التحوّل إلى دولة، ومُقيّد بتدابير أمنية مُحكمة.
هذا هو الممكن من وجهة نظر "الغرب"، وهو مقبول من العرب، أو لنقل إنّه ليس مرفوضاً حتى الآن، وهذه هي "الصفقة" التي ربّما تفكّر بها الولايات المتحدة.
حركة حماس ليست بحاجةٍ إلى أيّ انتصار لأنّها انتصرت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، وهي انتصرت عندما أعادت فلسطين إلى واجهة الأحداث، وانتصرت لصمودها حتى الآن، وهي ستصمد لاحقاً لأنّ بنيتها العسكرية ليست جيشاً نظامياً، وهي قادرة على كلّ أشكال المناورة، وهي باتت قادرة على استنزاف جيش الاحتلال الإسرائيلي بصورة لن يتحمّلها طويلاً.
و"حماس" ليست بحاجةٍ لكي تحكم قطاع غزة بمفردها بعد الآن، وتستطيع أن تعيد تدوير مشاركتها بالشكل المناسب والمتناسب مع الظروف الجديدة، وهي ستكون في وضعٍ جماهيري يُؤهّلها للمناورة السياسية دون خوف من فقد الدعم والتأييد.
معادلة النصر والهزيمة موجودة هناك، وهناك فقط، وليس لدى "حماس".