مع وربّما بسبب تكرار الأميركيين التحذير من توسيع رقعة الحرب الدائرة بين إسرائيل و»حماس» في غزة إلى حرب إقليمية، بات البعض يعتقد أن عدم انخراط «حزب الله» في الحرب حتى اليوم يعود إلى أن الحزب متردد، لسبب يعود للردع الأميركي، أو حتى لا يخسر داخلياً بتعريض لبنان للدمار، أو أخذ رسائل التهديد الإسرائيلية بتعريض بيروت لما تتعرض له غزة من قتل ودمار على محمل الجد، مع أن قراءة متأنية أو متابعة حثيثة للمشهد وللأحداث تقول غير أو حتى عكس ذلك، أي أن «حزب الله» هو من يقوم بضبط النفس، وليس إسرائيل، وأن إسرائيل ترغب فعلاً باندلاع الحرب على جبهتها الشمالية، وذلك لأنها تجد الوقت مناسباً، بل إن الفرصة المتاحة لحرب تعيد تشكيل الشرق الأوسط رأساً على عقب، قد باتت متاحة، وأن الغرب الأميركي والأوروبي قد منحها فرصة لا تتكرر بتغطية حرب مجرمة بكل معنى الكلمة، لذا تريد استثمارها إلى أبعد حد، وإلى أبعد مدى ممكن.
لقد صمت أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله مدة ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع، ولم يظهر إلا بعد أن أعلنت إسرائيل عن إطلاق المرحلة الثانية من حربها المجنونة على غزة، أي حربها البرية، وفي خطابه الذي جاء أقل مما توقع محازبوه وأنصاره، رغم أن كلمة محمد الضيف القائد العسكري لـ»حماس»، عشية إطلاق «طوفان الأقصى» قد ناشدت أو توقعت أن تنفتح الجبهات كافة الخمس أو الست التي طالما أعلنت إسرائيل عن خشيتها من مواجهاتها معاً، والتي طالما هدد رفيق نصر الله في السلاح - نقصد زياد النخالة أمين عام الجهاد الإسلامي الفلسطيني - إسرائيل بوحدة الساحات، برر نصر الله يوم الجمعة، الثالث من تشرين الثاني الحالي، عدم انخراط الحزب الذي تعد قوته أكبر بكثير من قوة «حماس»، بالقول: إنه قد دخل المعركة منذ اليوم الأول، مستعرضاً حالة الاشتباك اليومية المستمرة على الحدود بين لبنان وإسرائيل، مضيفاً: إن تطور الأمور، أي الدخول الكامل في الحرب، منوط بتطور جبهة غزة، وإنه يسعى لتحقيق هدفين، أولهما وقف الحرب، والثاني انتصار «حماس».
وكان مهماً، أو كافياً لتكسين قلق الفلسطينيين والعرب المخذولين من الحكومات الرسمية ومن النظام العالمي، أن يتضمن خطاب نصر الله الإشارة إلى أن حالة الاشتباك على الحدود الشمالية لإسرائيل ليست كافية، أي أنها قابلة للتحول للانخراط تماماً في الحرب، وذلك ارتباطاً بعدم وقف إطلاق النار واستمرار المجازر، وكان ذلك كذلك، لأن الناس ترقبت خطاب نصر الله التالي، بعد ثمانية أيام على خطابه الأول، والذي ألقاه بمناسبة يوم الشهيد اللبناني، وذلك يوم السبت 11/11، والذي يتوافق مع ذكرى استشهاد أحمد قصير الذي أطلق المقاومة اللبنانية بقيادة «حزب الله» بعملية استشهادية قتل خلالها 100 ضابط وجندي إسرائيلي في جنوب لبنان الذي كان محتلاً في ذلك العام 1982.
لكن خطاب نصر الله التالي لم يتضمن جديداً، سوى محاولة إقناع المتابعين بمشاركة محور المقاومة غزة حربها، وذلك باستعراضه إسناد قوى المقاومة الإقليمية في الجبهات الست: اليمن، العراق، سورية، الضفة الفلسطينية، إيران، ولبنان، ومتتبعاً ارتفاع المنسوب الكمي والنوعي للقتال على الحدود اللبنانية الإسرائيلية.
وفي الخطابين قال نصر الله: إن الانتصار في الحرب يتطلب صبراً وجلداً، وإن تحقيق النصر لا يكون بالضربة القاضية، بل بالنقاط، وربما أيضاً يكون بمنع تحقيق العدو لأهدافه، وليس بنجاح المقاومة في تحقيق أهدافها البعيدة بالحرية والاستقلال، أو القريبة بوقف فوري أو قريب للحرب، أو بكسر الحصار، أو ما إلى ذلك.
وفي خطابَيه دفع نصر الله المتابعين من أنصار المقاومة ومن الفلسطينيين والعرب وحتى من مؤيدي الحق الفلسطيني، إلى احتمال الاستمرار في مشاهدة الدمار ومناظر القتل وجرائم الحرب باستهداف المشافي، ذلك الاستهداف الذي بدأ بعنف يوم إلقاء نصر الله خطابه، وكان نفس اليوم الذي انعقدت فيه القمة العربية الإسلامية، التي كانت مبعثاً لإحباط مضاعف لدى كل المتعاطفين مع الضحايا الفلسطينيين، كذلك دفعهم إلى ترقب صمود المقاومة الميدانية، مع تصاعد التظاهرات الدولية لعل وعسى أن تنجح في الضغط على البيت الأبيض، الذي اعتبره نصر الله الوحيد القادر على وقف الحرب.
كذلك لا بد من الإشارة إلى أن نصر الله ختم خطابه الثاني بالقول: إنه ليس هو الذي يقوم بإعلان الحرب، بل الميدان، أما هو فمهمته أن يفسر ويشرح ما يفعله الميدان وما يقرره، وبذلك أبقى على خيط الأمل الرفيع قائماً، ولا أحد يدري إن كان ذلك تكتيكاً سياسياً/عسكرياً، حتى لا يدرك الإسرائيليون نواياه، أم أنه محاولة للإبقاء على تأييد الشارع العربي له، والذي لوحظ انفضاضه عنه منذ زمن، لكن التعلق به ليقوم بإنقاذ غزة، من مزيد من المذابح، هو الأمر الذي أعاد اهتمام الشارع بظهوره الإعلامي/السياسي.
الحقيقة، أن ما تسمّيه إيران محور الخير، أو محور المقاومة، كما قال الرئيس إبراهيم رئيسي نفسه في خطابه بقمة الرياض، وهو يواجه محور الشر، ويقصد أميركا وإسرائيل، قد لا ينفعل لسقوط الضحايا، لأن ما يهمه أكثر هو حالة المقاومة، والجميع يعرف أن الحرب الإسرائيلية أوجعت المجتمع الفلسطيني في غزة، بما أحدثته فيه من تدمير وتقتيل، تضمن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلا أنها بالمقابل لم تمس بمن هم تحت الأرض من مقاومين كثيراً، وحتى إسرائيل نفسها لا تدري إن كان هناك ضحايا في صفوفهم، وكم هو عددهم، لذا بالنسبة لإيران و»حزب الله» ومحور المقاومة عموماً، فأن تخرج المقاومة بخير يعني تحقيق النصر، بصرف النظر عما يكون قد لحق بالمجتمع من دمار وقتل، وهنا يكون السؤال الجوهري، لكن الحاسم: هل سيحتمل هذا المحور تدمير المقاومة في غزة، أم أنه في لحظة يقرأ فيها احتمال وقوع هذا الاحتمال، سيفتح الأبواب أمام حرب إقليمية، تكفي مشاركة «حزب الله» فيها لتكون كذلك؟
أغلب الظن أن ذلك المحور الذي تقوده إيران، ويعد «حزب الله» أقوى تشكيلاته، لن يحتمل ذلك أو لن يقبل بذلك، وإن كان بالتأكيد سيحسب الأمور جيداً، أي أنه سيضع ذلك الخيار في الميزان، ليقرر أيهما أفضل أن يفتح الباب لحرب إقليمية ينخرط فيها كل شركاء محور المقاومة، من اليمن إلى لبنان مروراً بإيران والعراق وسورية، ليواجه عسكرياً ليس إسرائيل، بل إسرائيل وأميركا، وربما بريطانيا وغيرها من دول الغرب الأوروبي.
نصر الله نفسه كان قال في خطابه الأول، يوم 3 /11: إنه أعد العدة أيضاً لمواجهة حاملات الطائرات الأميركية، لكن كل هذا قد يكون ضمن الحرب الكلامية بينه وبين الإسرائيليين والأميركيين، الذين يقومون بتهديده وتهديد إيران من مغبة توسيع رقعة الحرب لتتحول إلى حرب إقليمية، وذلك عبر وسطاء كثر ومباشرة، كما قال.
هذا ما يبدو على سطح المشهد لمن يتابع التفاصيل، لكن ما وراء الحروف وما بينها يقول: إن إسرائيل هي من تتحرش بـ»حزب الله» في الشمال، وإن الحزب طوال الوقت يقوم بالرد، وفق معادلة منضبطة اعتاد عليها الطرفان دائماً، وهذا ينفي عملياً ما يقوله نصر الله: إن حالة الاشتباك بينهما قد حيّدت نصف سلاح الجو الإسرائيلي ونصف قبة إسرائيل الحديدية، وإنه قام بإشغال نحو ثلث قواتها البرية، التي كان من الممكن أن تدفع بها إلى جبهة غزة.. والحقيقة أن إسرائيل لا يمكنها بالمنطق العسكري، ولا أن حاجتها تقتضي الدفع بكل ما لديها من سلاح جو وقوات بر وآليات وقبب حديدية لجبهة غزة، فهي لا تحارب في غزة قوة عسكرية عظمى على كل حال.
وعبر تحرشها العسكري بـ»حزب الله»، تمني إسرائيل النفس بأن يبادر الحزب لفتح أبواب الحرب الشاملة بينهما، لأن تلك الحرب لن تكون حرب إسرائيل مع الحزب بل حرب أميركا، وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه إسرائيل منذ سنوات طويلة، أي أن تدفع بالقوات الأميركية للدخول في حرب مع إيران، مباشرة أو عبر حلفائها، وذلك لتطيح بمنافس إقليمي على النفوذ والسيطرة.