لا نقول عودة الروح إلى مصر، فمصر لم تفارقها روحها، ولن تفارقها، ما دامت على الأرض حياة، إنما هي عودة للدور الذي طال اشتياق المنطقة وحاجتها إليه. الدور الذي غاب، او غيّب، لسنوات عانت المنطقة فيها ما عانت بفعل ذلك الغياب وبفعل عوامل أُخرى.
وعودة الدور المصري لا يمكن أن تأتي كما يجب وكما يشتهى وان تلعب دورها المأمول دون ان تكون مصر قوية. ومصر تملك من ممكنات القوة الكثير الذي لا يحتاج الى أكثر من التفعيل. تملك قوة وحدة نسيجها الاجتماعي دونما فوارق مذهبية أو قبلية او مناطقية لتكون بذلك الأبرز والأوفى شروطاً لقيام واستقرار الدولة /الأمة، تملك قوة التاريخ المحمّل بالغنى الحضاري والتراثي، وقوة غنى التجربة وتأصلها، تملك قوة الموقع الجغرافي، يصل بين مراكز الحضارة العالمية في عمق التاريخ الإنساني، ويصل بين شرق الدنيا وغربها في حاضر الزمن، وتملك قوة الريادة للمنطقة ليس فقط بمفاتيح القوة المادية والعددية، ولكن قبلها بمفاتيح القوة الناعمة التي غزت بها قلوب أهل المنطقة ووجدانهم مع عقولهم: من علم وتعليم الى ثقافة إلى فن إلى رياضة الى...
ومصر امتلكت دوماً جيشاً قوياً، يحتضنه الشعب ويتلاحم معه، يحمي بلاده واستقرارها كما يحمي عموم المنطقة في وجه أي غزو او اجتياح منذ ما قبل محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة إلى يومنا هذا. فلا أمان واستقرار في المنطقة عموماً في غياب للجيش المصري وقوته ودوره.
المؤتمر الاقتصادي الذي حقق نجاحاً باهراً في الأيام الأخيرة جاء ليعطي مؤشراً إضافياً واضحاً أن مصر تضع قدما قوية وراسخة على طريق استعادة قوتها الاقتصادية، لتضاف الى أقدام قوية أُخرى وضعتها في مجالات أساسية أخرى.
تلك الخطوات مجتمعة ومتكاملة تصنع مسيرة مصر الثابتة والواثقة نحو استعادتها لنفسها وأهلها أولاً: رخاءً وأمنا واستقرارا، ثم استعادتها لدورها الريادي المشتهى على صعيد المنطقة كلها والإقليم.
تجاوب الدول العربية القادرة مالياً وسخاء مساهماتها جاء لافتاً وإيجابياً. وجاء ليعبر عن القناعة بأهمية الدور المصري في الأوضاع العربية بشكل عام وفي تعزيز الأمن القومي العربي وحماية حدوده من أي اعتداء، ولم يكن صدفة قول الرئيس المصري إن امن دول الخليج خط أحمر.
نجاح المؤتمر الباهر بقدر ما اكد على قدرة المصريين على التخطيط على أساس استشراف احتياجات الناس وضرورات واحتياجات نهوض البلد وتقدمها، ثم الإعداد والاتصال والتنظيم بشكل متكامل ومتسق، فانه أكد ترحيب العالم بمصر ودورها وحاجته لها ولدورها واستعداده العالي للتعاون وتقديم العون المطلوب. وهذا ما بدا في منتهى الجلاء في حجم ونوع الحضور ثم في الحجم العالي للاستثمارات والمساهمات والتمويل والقروض من دول وجهات عديدة ومتنوعة، وفي مجالات إنمائية وتطويرية في اكثر من مجال حيوي.
المؤتمر الاقتصادي انعقد قبل أيام محدودة من انعقاد مؤتمر القمة العربية بضيافة مصر نفسها، حيث يفترض أن يكون الأمن القومي العربي ومجابهة المخاطر التي يتعرض لها من اهم الموضوعات على جدول أعماله، وبشكل خاص مناقشة المقترح المصري الداعي الى تشكيل قوة عربية موحدة للتعامل مع هذه المخاطر تحت مظلة جامعة الدول العربية، وجاء أيضا قبيل الانتخابات التشريعية في دولة الاحتلال التي تشكل تجذر الموقف العنصري الاستيطاني العدواني تجاه الحقوق الفلسطينية وقضايا النضال الوطني الفلسطيني والتمييز ضد فلسطينيي 1948 عناوينها الأساسية الجامعة.
ان عودة الدور المصري والإنجازات الهامة على طريق استعادته لحيويته وريادته، يأتي في الوقت الضروري والمناسب تماما، ليقود تجليس الكثير من امور المنطقة العربية، ويأتي في الوقت المناسب تماما ليلعب دورا حاسما ويقود المواجهة للمحاولات الجادة والسريعة التي تسعى لإقامة نظام إقليمي جديد، بالتفاهم أو التساوم، بين قوى إقليمية وقوى دولية مؤثرة، ليكون بديلا للنظام العربي القائم، وبشكل يتجاوز الوحدة الجغرافية والسيادة الوطنية لبعض دوله، ولا يترك للدول العربية بشكل عام سوى دور الملحق التابع والمتلقي.
وهذه المحاولات تقوم على الاستفادة من التردي الشديد في اوضاع عدد غير قليل من الدول العربية ومن حال وهن الفعل وغياب الدور للنظام العربي القائم ومؤسساته بشكل عام، الى الدرجة التي تثير أسئلة جادة حول قدرة هذا النظام على الاستمرار.
بالتأكيد فان الشعب الفلسطيني وقضيته القومية ونضاله الوطني سيكون ربما المستفيد الأول، بعد أهل مصر نفسها، من عودة الدور المصري القوي الى المنطقة، فقد ظلت مصر القوية هي السند الأول للشعب الفلسطيني وحقوقه ونضالاته والبلسم لجراحاته، والحاني على وحدته وعلى وحدة قواه ووحدة قيادته السياسية ومؤسساتها.
لقد جاء الطعن القانوني من الحكومة المصرية على حكم محكمة الجنايات المصرية باعتبار حركة حماس وكتائب القسام تشكيلات إرهابية كتجلٍ من تجليات كبر مصر وتساميها عن الصغائر، وهو موقف يفرض على الجهات المعنية تلقفه والتعامل معه بما يستدعيه ويفرضه من تجاوب إيجابي.
هل يمكن أن يرى البعض في كل ما تقدم تفاؤلاً زائداً أو متعجلاً؟ فليكن.
ولكنه بالتأكيد تفاؤل موضوعي قائم على معطيات واقعية أساسها الثقة بالشعب المصري وقدراته، وله مقدمات قوية، ملموسة ومتسارعة.
تأثيرات نجاح المؤتمر على رخاء عيش الناس وعلى توفير فرص عمل لمئات آلاف العاطلين عن العمل بالذات من أوساط الشباب.