بعد مفاوضات شاقة استمرت أياماً طويلة، وكانت أطرافها إضافة إلى كل من حماس وإسرائيل، كل من قطر ومصر والإدارة الأميركية، تم الإعلان أول من أمس عن التوصل لهدنة تتضمن وقفاً كاملاً للقتال، مع تبادل لبعض المحتجزين ببعض الأسرى، وبالتحديد الإفراج عن خمسين سيدة وطفلا من المحتجزين لدى حماس، مقابل نحو 150 أسيرة وطفلاً أسيراً فلسطينيين معتقلين في السجون الإسرائيلية، على أن يبدأ تنفيذ الاتفاق كما هو متوقع اليوم الجمعة، وعلى أن يستمر وقف إطلاق النار المؤقت أربعة أيام، تتخللها عملية التبادل، وهكذا تكون أيام وقف إطلاق النار ما بين يومي الجمعة والاثنين القادم.
يكفينا أن ندلل على أن التوصل لهذا الاتفاق كان صعباً وشاقاً، وذلك لأنه تخلله انقطاع في التفاوض يوم السابع عشر من الشهر الجاري، كما أنه خلال أيام التفاوض اضطر الرئيس الأميركي جو بايدن للاتصال برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أربع عشرة مرة، وبالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ثلاث مرات، وبأمير قطر الشيخ تميم بن حمد مرتين، وكل ذلك جرى في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية المجرمة على غزة، وتخلل أيام التفاوض دخول الجيش الإسرائيلي مستشفى الشفاء، حيث أوقفت حماس حينها التفاوض.
وفي حقيقة الأمر، أن مجرد الإعلان عن الاتفاق، وإن كان مؤقتاً، فإنه يحمل دلالات سياسية وحتى عسكرية بالغة، فمتن الاتفاق نفسه، اقترب أكثر من مطالب حماس التي كان أعلن عن بعض تفاصيلها من قبل قادتها، فيما كان الجانب الإسرائيلي وحتى الأميركي يطالب بعدد أكبر من المحتجزين يشملهم الاتفاق، وذلك ضمن إطار ما أطلق عليه الإسرائيليون الإفراج عن عائلات، أي عن أمهات وأبنائهن، وكانت أيام الاتفاق بالطبع واحدة من مفاصل الصراع التفاوضي، ففي حين كانت حماس تريدها خمسة أيام، كان الطرف الآخر يتحدث عن ساعات ثم عن يومين ثم ثلاثة، لكن وحيث أن الاتفاق قد خرج في نهاية المطاف وفق صيغة وقف مؤقت للنار طوال أربعة أيام، يتم فيها الإفراج عن 50 محتجزا إسرائيليا وأجنبيا مقابل 150 من الفلسطينيين، فإن أول شيء يمكن ملاحظته هو أن هذا العدد يعني بأن حماس قد أفرجت عن ربع أو خمس المحتجزين لديها مقابل مئات وليس آلافاً من الأسرى الفلسطينيين.
ثم يمكن بعد ذلك قراءة الأبعاد السياسية، لذلك الاتفاق، ومعه يمكن لجو بايدن أن يتحرر قليلا من الضغط الداخلي، وأن يقدم لجمهور ناخبيه منجزا يعزز حظوظه الانتخابية، وهو الذي تغنى قبل أسابيع بنجاحه عبر قطر في إطلاق سراح المحتجزتين الأميركيتين، كذلك هو حدد هدفه بشكل أفضل من الإسرائيليين، فقد أعلن عن أنه يسعى لتحرير كل المحتجزين الأميركيين وكذلك إخراج كل الأميركيين العالقين في غزة، وهو عمليا يسير على طريق تحقيق ذلك، وهذه كانت خطوة كبيرة جدا في هذا الاتجاه، وأهم هدف سياسي/عسكري له كان عدم توسيع نطاق الحرب لتتحول إلى حرب إقليمية، رغم أن إسرائيل سعت لذلك جدياً، كافح بايدن والبيت الأبيض من أجل منع إسرائيل من جر حزب الله للمشاركة الكاملة في الحرب، وبعد أن اعتقد الأميركيون العكس فدفعوا حاملات الطائرات إلى شرق المتوسط، من أجل ردع حزب الله، تبين لهم بأن إسرائيل هي التي تسعى إلى ذلك.
وقد جاء إعلان حزب الله عن استعداده للمشاركة في وقف إطلاق النار، ليشجع الأميركيين على مواصلة الضغط على الإسرائيليين أولاً من أجل عدم توسيع الحرب، وثانياً للاستمرار بخفض التصعيد ومواصلة طريق حلقات وقف النار المؤقتة، بما يهيئ الأجواء لتوقف تام لإطلاق النار بعد التوصل لعدد من الاتفاقيات بهذا الخصوص.
الحقيقة، كما قلنا في أكثر من مقال سابق بأن مسار الحرب وحتى نتيجتها تتحدد وفق مسارها التالي، أي وفق ما يتحقق مع مرور الوقت على الأرض من تحقيق انجازات أو مكاسب عسكرية لكل طرف، وكذلك وفق ما يرافقها من تداعيات وردود فعل إقليمية ودولية، وهكذا يمكن القول، بأن إسرائيل، أي حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، هي التي أجبرت على هذا الوقف المؤقت لإطلاق النار، وذلك عكس رغبتها، فهي معرضة للسقوط مع توقف الحرب مباشرة، وهي أعلنت بأنها ماضية في حربها لسحق حماس كقوة عسكرية ونظام حكم، وبأنها لن توقف النار إلا بعد تحرير كل المحتجزين دفعة واحدة، وهي راهنت على تحريرهم دون تفاوض، أي بقوتها العسكرية والاستخباراتية، وربما أنها كانت تراهن على أنهم محتجزون في مستشفى الشفاء، لذا ورغم أنها حصلت على الضوء الأميركي الأخضر في اقتحام المستشفى، إلا أن فشلها الاستخباراتي كان سبباً في بدء التفاوض على التبادل، والذي قادته أميركا رغماً عن نتنياهو.
ورغم توغل إسرائيل وانتشار جيشها في معظم مناطق شمال قطاع غزة ومدينتها، أي ضمن ما يعادل 40% من مساحة القطاع، إلا أن المقاومة صمدت وواصلت الاشتباك مع قوات الغزو، واستمرت في إطلاق الصواريخ، وألحقت خسائر بشرية وخسائر في المعدات العسكرية بشكل أكبر، فيما لم تنجح إسرائيل في الوصول لأي رمز قيادي عسكري مهم من القسام أو غيره من فصائل المقاومة، واستمرت فقط في ارتكاب جرائم الحرب بحق الأطفال والنساء والمدنيين، ولم تتورع عن تجاوز كل المحرمات الدولية، من استهداف المشافي والمدارس ودور العبادة، ما ألّب العالم كله ضدها، وهكذا بدأت التصدعات تتزايد كل يوم وكل ساعة في جدار الإسناد الغربي، وصولاً إلى الخارجية الأميركية والى الأليزيه، كذلك بدأت بعض دول العالم بالإقدام على إجراءات دبلوماسية ضد إسرائيل.
وفي الوقت الذي لم تتوقف فيه الاحتجاجات العالمية في عواصم ومدن العالم منددة بجرائم الحرب الإسرائيلية، بات الضغط مع اجتماع قمة بريكس، وبعد القمة العربية الإسلامية وتتابع جلسات مجلس الأمن والجمعية العامة، وصولا إلى التوتر مع الأردن، وكان مهماً وذا دلالة قصوى الإعلان عن تحريك ألف قارب تقل 4500 مواطن من 40 دولة بهدف الوصول إلى غزة عبر البحر، وبذلك يجعلون من أجسادهم دروعاً بشرية لحماية سكان غزة، ولمحاولة وقف هذه الحرب الإجرامية.
ربما كانت أيام الوقف المؤقت لإطلاق النار قد تضمنت أيام الجمعة والسبت والأحد، بالصدفة، وهي أيام عادة ما تشهد التظاهرات في مدن العالم، في المدن العربية والإسلامية يوم الجمعة، وفي مدن الغرب والشرق يومي السبت والأحد، بما في ذلك في إسرائيل، حيث ارتفعت عقيرة عائلات الأسرى والمحتجزين ضد نتنياهو وأركان حكومته المتطرفة لأنهم أدركوا تماماً بأنها تشن الحرب بما تتضمنه من مخاطر واحتمالات قتل أقاربهم، لأسباب شخصية لها علاقة ببقاء نتنياهو وغالانت، وبن غفير وسموتريتش على وجه الخصوص في مقاعد الحكم.
المهم الآن، متعلق بالسؤال الذي بات أكثر تداولاً وهو: هل يتحول الوقف المؤقت لإطلاق النار إلى دائم، الجواب بالطبع: لا في المدى المنظور، أي أن يوم الثلاثاء القادم سيشهد على الأرجح مواصلة الحرب، لكن مع تواصل التفاوض على المجموعات الأخرى من المحتجزين، حيث بتقديرنا سيرتفع ثمنهم المقابل على الجهة الثانية من الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ومع تتابع اتفاقيات وقف النار، قد ينفتح دوليا العمل على التفاوض من أجل حل الدولتين الذي عاد بقوة للتداول، وباتت لكثير من الدول، خاصة دول الجوار، ودول الإقليم، مصلحة في تنفيذه، وإذا ما شهدت إسرائيل خلال الأيام القادمة تغييراً في الحكومة، وإذا ما وجد بايدن فيما تحقق حينها من خروج الأميركيين من غزة، وبعد الإفراج عن المحتجزين الأميركيين بأن ذلك كاف، ليرفع يده عن تغطية نتنياهو، وفي سبيل منع اتساع رقعة الحرب، حينها قد تتوقف الحرب تماماً، بإعلان عن وقف دائم أو حتى دونما إعلان.