أسـئـلـة الـحـرب (1)!!

تنزيل (5).jpg
حجم الخط

بقلم حسن خضر

 

 

 

ثمة أسئلة وثيقة الصلة بالحرب، ولكنها لا تجد ما يكفي من الاهتمام: لأن الأولوية للخبر العاجل، ما يحدث في المشهد السياسي العام، وعلى الأرض في الميدان، ولأن الحرب لم تضع أوزارها، بعد، ما يعني أن نتائجها قد تغيّر طريقة التفكير في، وصياغة، أسئلة كهذه، ناهيك عمّا يستجد من أسئلة لم تكن في الحسبان.
ومع ذلك، لا يبدو من السابق لأوانه التفكير في أمور بعينها، وصياغتها كأسئلة قد تُفسّر إجاباتها (تحتمل أكثر من جواب) جانباً مما يجري في الميدان، وتُسلّط، في السياق نفسه، ضوءاً على المشهد السياسي العام في اليوم الذي يلي وقف القتال.
وأوّل ما يتبادر إلى الذهن، في هذا الصدد، سؤال يبدو وكأنه سؤال الأسئلة بحكم ما يتصل به، ويتفرع عنه من دلالات: بماذا، وكيف، نفسّر تأييد حكومات الدول الأوروبية، والولايات المتحدة، لإسرائيل؟ فأقل ما يُقال في هذا التأييد أنه غير مسبوق حتى بالمقارنة مع حروب سابقة خاضها الإسرائيليون. وينبغي، فعلاً، ألا نكتفي بإجابة واحدة، وألا نسقط في لعبة التبسيط. فالمسألة لا تفسرها كراهية «الغرب» للعرب والمسلمين. هذا كلام فاضٍ.
ولنفكر، بداية، في معنى التأييد، الذي تجلى في أمرين لكليهما دلالات سياسية، وتداعيات إستراتيجية، بعيدة المدى: (1) تحريك منظومات أسلحة تصلح لحربين إقليمية وعالمية في آن (حاملات طائرات، غواصات نووية، قاذفات إستراتيجية، إضافة إلى مشاركة جنرالات أميركيين في اجتماعات، وعلى الأرجح قرارات، هيئة الأركان الإسرائيلية، ومجلس الحرب المصغّر).
ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذا كله، وما صاحبته من زيارات وتصريحات تضامنية حارة جداً، كوسيلة للحيلولة دون توسيع نطاق الحرب، ورسالة تحذير للآخرين. وفي كل الأحوال، نعثر على قلق غير مسبوق، وعلى رغبة غير مسبوقة، أيضاً، في «تكشير الأنياب»، وفي عودة نشطة من جانب الأميركيين إلى منطقة حاولوا تقليص انخراطهم فيها، مع رهان على نجاح التحالف الإبراهيمي - الإسرائيلي في ملء الفراغ.
(2) أما المعنى الثاني للتأييد، وعلى الرغم من حضوره الكثيف منذ بداية الحرب، إلا أنه لا يُستكشف بالقدر الكافي، ولا تُستخلص دلالته الأهم: الترخيص بالقتل تحت عنوان حق الدفاع عن النفس، و»تكشير الأنياب» لحماية ظهر الإسرائيليين، وخوض الحرب «على راحتهم».
والواقع أن الترخيص بالقتل لن يكون مفهوماً دون تشخيصه كدليل على تدهور أصاب القيم والضوابط التي نصت عليها القوانين والمعايير الدولية لحماية المدنيين في أزمنة الحرب. يعود أغلب القوانين والمعاهدات والمعايير (دون الدخول في تفاصيلها الآن) إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتمثل، في الجوهر، محاولة لاستخلاص العبر من كارثة الحرب التي أدوت بحياة ملايين الأبرياء في أربعة أركان الأرض.
ومن المؤسف أن الكثير من دروس ما بعد الحرب العالمية الثانية تدهورت في العقود الأخيرة، في مناطق مختلفة، وفي «الغرب» الأوروبي - الأميركي على نحو خاص. ومع ذلك، يصعب فهم الترخيص بالقتل في معزل عن حالة تدهور كارثية أطاحت بوضع المدنيين في الشرق الأوسط منذ الحرب العراقية - الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي.
نتكلّم، إذاً، عن حالة تدهور متزايدة، ومتلاحقة، على مدار ما يزيد على أربعة عقود: احتلال الأميركيين للعراق، وسلسلة الحروب الأهلية العراقية، والسورية، والليبية، واليمنية، والسودانية (سبقتها الحرب الأهلية في لبنان، والعشرية السوداء الجزائرية) إضافة إلى حروب الدواعش (أي عودة مكبوت القرون الوسطى في أبشع صوره وأكثرها دموية). شهدت كل تلك الحروب حملات شنها النظام الحاكم على شعبه، كما شهدت تدخلات سافرة من جانب قوى خارجية، كانت هامشية حتى وقت قريب، وحوّلت كل مكان عثرت فيه على موطئ قدم إلى أرض خراب.
وعلاوة على هذا كله، تُضاف الحروب الإسرائيلية: حرب 82 واحتلال بيروت، حرب اجتياح الجنوب في 2006، وسلسلة الحملات والحروب منذ اجتياح المدن الفلسطينية لوأد الانتفاضة الثانية في ربيع 2002 وحتى الحرب الأخيرة على غزة.
على خلفية كهذه، يمكن فهم التدهور المتلاحق الذي لحق بوضع المدنيين في هذا الجزء من العالم. وفي سياقه يمكن الكلام عمّا يقع على عاتق القوى الكبرى، من مسؤوليات أخلاقية وسياسية. فسياسة صرف النظر عن جرائم الأنظمة (بحق شعوبها، وشعوب حوّلتها إلى أدوات في ساحات للأوهام الإمبراطورية، وتصفية الحسابات) تنتمي إلى، وتصدر عن، بيئة للعنف في منطقة أسهم الاستثناء الإسرائيلي (يحق لها ما لا يحق لغيرها) في زعزعة كل مكانة محتملة فيها للقيم والمعايير الدولية.
وفي البيئة نفسها، مُنحت، وبطريقة انتقائية، استثناءات من عيار أقل لقوى في الإقليم مكّنتها من ارتكاب جرائم وانتهاكات ومنحتها إحساساً مُسبقاً بالحماية. ولا يبدو من قبيل المصادفة أن أصحاب الاستثناءات الكبيرة والصغيرة هم حجر الزاوية في نظام للأمن الإقليمي مثّل سلام إبراهيم نقلته الافتتاحية الأولى. وفي الغالب يتكلّم هؤلاء بعبارات متشابهة عن بيئة للعنف في الشرق الأوسط يفهمونها أفضل من غيرهم.
ومع هذا كله في الذهن، تتجلى في الختام أسئلة تمثيلية فائقة الأهمية كشواهد ووسائل إيضاح من نوع:
هل ربح الأميركيون حرب احتلال العراق، أم تكبّدوا هزيمة مروعة؟ وهل ضمنت حرب «سلامة الجليل» التي شنها الإسرائيليون في صيف 1982 سلام الجليل، فعلاً، أم وضعته تحت رحمة تهديد أشد فتكاً، وجلبت إيران إلى حدوده؟ وهل التضامن الرسمي الأميركي - الأوروبي، غير المسبوق، مع إسرائيل، وبما أسلفنا من دلالات، يضمن أمنها فعلاً؟ وهل ثمة فائدة تُرتجى من نظام للأمن الإقليمي يربح الأنظمة كلها، ويخسر الشعوب والفلسطينيين؟ فاصل ونواصل.