وكانت سنة وجاءت أخرى، انغلقت الأولى على الدم وافتتحت الجديدة على درب طويل من الآلام. مع بداية السنة، دخل عشرات الآلاف من الأسر الغزية لتهيم على وجهها في صحراء القتل والدمار، تفتتح عامها في الخيام لتستعيد التغريبة الفلسطينية التي أصبحت هوية دائمة، لا ماضي أخذ حصته من دمهم ومضى، يدخلون العام وكل أسرة فقدت ما يكفي من الأحبة لتعيش إذا ما نسيها الموت على الذكريات والدموع وأفعى تلدغ القلب، ولا أعرف كيف يمكن للحياة أن تستمر مع هؤلاء البشر.
القلب يتمزق حزنا وحنينا لمنطقة فقدت قلبها وروحها وانتزعت من غرف نومها وأسِرّتها إلى الشوارع تبحث عن قطع لحم أبنائها وبقاياها المحروقة، لم تسجل البشرية في أكثر حروبها توحشا يشبه ما حدث لغزة، في بداية العام، يفتش الناس في غزة عن كسرة خبز وهم يهربون من الموت ويهَرّبون أبناءهم كما القطط المذعورة، في غزة التي تدخل عامها على وقع الخوف وحرارة الصواريخ ودرجة التجمد يبدو أن لا مفر من ثنائية الموت والموت، الهروب من الحريق والجليد تلك الثنائية القاتلة ولا مفر سوى عذاب يعيشه الغزيون بلا وقت مستقطع.
في بداية العام، ينتهى الكلام .... كان الكتاب يدبجون مقالاتهم بالتهنئة والتمنيات بأحلام يدركون أنها غادرت الأوطان العربية بلا رجعة، وفي كل عام، كان مقال افتتاحه الفلسطيني يتمنى عاما أفضل دوما لأن الأعوام كانت تنتهي حاملة في جيوبها الكثير من المعاناة والألم لشعب يقف على رصيف الحلم ورصيف الأمل يخاف أن ينزلق في إحدى الحفر التي كان التاريخ كريما في صناعتها، وكأنه ينتقم من الشعب الفلسطيني وخصوصا ممن شاءت أقدارهم أن يجدوا أنفسهم صدفة في غزة.
ماذا يمكن أن يقال للغزيين في هذا اليوم وهذه السنة وهذه الدقائق وثواني الموت الطويلة؟ كل عام وأنتم بخير؟ هم ليسوا بخير ولن يكونوا لعقود، فالجرح الواسع في القلب لا يمكن رتقه، هل نكتب لهم عن تمنيات بأن يكون العام الجديد أفضل؟ فقد افتتح يومه الأول حاملا الموت في جعبته، هل نقول لكم ولأسركم كل السعادة؟ فقد هجرتهم طيورها وأرسلت غربان الموت ولم تبق العائلات، فمن نجا بنصف أسرة اعتبر نفسه محظوظاً، تصوروا؟
يقولون من رأى مصيبة غيره هانت مصيبته، هكذا يحاول الغزيون مواساة أنفسهم بتلك الكذبة غير الإنسانية وهم يشاهدون الإبادة والسحق لعائلات بأكملها، وهم يخدعون ما تبقى فيهم من الروح لعل الكذب يخفف من وطأة مأساة كانت توزعه بالتساوي من رفح إلى بيت حانون. لو ألقت إسرائيل قنبلة نووية دفعة واحدة وماتوا جميعا كما طلب أحد وزرائها لكان أرحم من هذا العذاب، عذاب الجوع وعذاب الخوف وعذاب البرد وعذاب التشتت وعذاب الانكسار، لو يعرف الناس ماذا حدث للرجال هناك سيكون لديهم ما يكفي للقهر طويلا. فقد بكت عيون الرجال وتبلدت عواطف النساء وتقطعت أجساد الأطفال ... ماتوا ذعرا وجوعا وقصفا.
اعتدت على كتابة مقال العام الجديد ... هذه المرة أجد أن عقلي مشتت يهرب مني نحو أولئك الجوعى واليتامى والمكلومين بلا كلمات تليق بجبل الوجع الذي وصل حد السماء وارتطم بالغيم وأسقط مطرها حمماً وصواريخ عنقودية، ماذا يمكن أن يقال لأم فقدت كل أولادها؟ أو لامرأة ثكلت زوجها وبناتها؟ أو لطفل فقد والديه وسيكمل حياته إذا ما كتب له القدر حياة وحيداً فقيراً بائساً وهل تليق الكلمات بمناسبات الفجيعة؟ فالكلمات تم اختراعها للفرح ... ولا فرح في غزة التي لم تعرف سوى طقوس الموت.
وأنا في عاصمة أخرى، يرسل صديقي الصحافي رسالة بعد أن هاجر من الشمال ليقول، "أنا في مخيم المغازي في بيت لا يصلح للحياة، المخيم قريب من الحدود، بدي أطلع على رفح لكن لا مكان هناك، بالأمس، ناس راحوا رفح ورجعوا ثاني الوضع هناك لا يطاق ... بدي خيمة علشان ما أرتمي أنا وأولادي بالشارع ... هل تعرف أحد ممكن يدبر لي خيمة؟ مستدركاً، "بعرضك". هذا الصحافي سيد القوم الذي أعرفه بات يستجدي خيمة، تلك هي حقيقتنا وهو يقول، أولادنا يموتون من الجوع والبرد.
سيستقبل العالم عامه الجديد بالفرح، ستنفجر سماؤه بالألعاب النارية لكن سماء غزة المدججة بالنار ستستمر في قتل الغزيين دون أن يأبه بهم أي من أولئك المحتفلين، ستستمر الكرة الأرضية بالدوران ولن تتوقف لأن أماً فقدت ابنها أو لموت بات يعشش في إحدى زواياها. ستشرق الشمس كعادتها ويستمر مطر الشتاء، كل شيء سيكون طبيعيا ... لكن في غزة توقف كل شيء، أهلها يظنون أن فائض الحزن هناك غطى الكون وأن الأرض اتشحت بالسواد وتوقفت عن الدوران لأن القلوب هناك ماتت لما أصابها من طعنات لن تشفى منها ... لا كلمات تليق بالفاجعة، لكن الفاجعة الأكبر في موت الضمير العالمي على خشبة غزة.