لم تنتهِ الحرب بعد. ولنحتفظ في الذهن بحقيقة أن توقف القتال لا يعني نهاية الحرب. فالكثير من الحروب يستمر لسنوات طويلة حتى بعد أن تسكت المدافع. ومع ذلك، لا يبدو من السابق لأوانه القول، في معرض تعريف ما يحدث الآن، إنه يمثل علامة فارقة في تاريخ الشعب، تفوق كل ما عشناه منذ النكبة. ولنقل هي نكبة ثانية، أيضاً. في سياق كهذا، وعلى هدي منه، ثمة ما ينبغي أن يُقال:
أولاً، كانت النكبة الأولى بمثابة الحدث الفاعل الأوّل، المُؤسس، والرئيس، في إنشاء وصعود الهوية الوطنية للشعب في تمثيلاتها الحديثة بعد العام 1948. فالنكبة، بما تعني من تفاصيل فردية وجمعية كانت عاملاً توحيدياً ومُوحِّداً لمجموعة بشرية تمزقت وأغلبها من الفلاّحين.
فقدت المجموعة المعنية الأرض، والبيت ومورد الرزق، وأغلب المراكز الحضرية، والقيادة، وتفرقت في أربعة أركان الأرض. وقد كان هذا الفقدان مشتركاً، بمعنى أنه أصاب مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، سواء في البلاد أو خارجها، بلا تمييز، وبالقدر نفسه جعل مصائر كل هؤلاء مشتركة إلى حد بعيد.
وهذا، في الواقع، ما أعادت الحكايات الشفهية، والنصوص المكتوبة، إنتاجه على مدار عقود لاحقة. لذا، كان، وما زال، من المستحيل، أن يعرّف الناس أنفسهم، أو أن يتعرّفوا على أنفسهم، كفلسطينيين، بعيداً عن الحكايات، والاستيهامات، التي صنعها الرواة، والكتّاب، وكذلك مناهج التعليم المركزية، وتجارب فردية وجمعية تكاد تكون متشابهة.
فأنت لست أنت لأنك تريد أن تكون كذلك فقط، بل وبدرجة أكبر، ربما، لأن هذا ما يريده لك الآخرون. لذا، تتشابه حكايات الناس في مخيمات لبنان، مثلاً، عن تعديات المكتب الثاني (الأمن) اللبناني. ولدى الفلسطينيين ما لا يحصى من الروايات والنوادر المتشابهة إلى حد بعيد، عن تجارب في مطارات، وعلى حدود دول عربية. وفي العالم. وعلى الطريق منذ يوم النكبة الأوّل تشكّلت علامات ومحطات. فلن تجد بين الفلسطينيين من لا يعرف صبرا وشاتيلا، وحصار بيروت، ولا يرى في علامات كهذه جزءاً من تاريخ الشعب، وتاريخه (تاريخها) في لحظة التماهي مع الهوية الجمعية، ومحاولة تمثيلها.
ثانياً، بمعنى كل ما تقدّم، ودلالته، لا أجد مجازفة في القول: إن ما يحدث الآن، وما أصاب الشعب في غزة، يمثل علامة فارقة تنتمي من حيث الحجم والدلالة إلى حدث النكبة. ما يعني، بالاستنتاج، أيضاً، أنه يمثل حدثاً مُؤسساً جديداً يُضاف، بلا عناء، إلى الرصيد الرمزي والسياسي والفكري والعاطفي للهوية الوطنية الجامعة.
فأنت فلسطيني لأنك تنتمي إلى شعب انصبت حمم الموت على رؤوس مليونين ونصف المليون من بنيه وبناته، على مدار أشهر طويلة، واجتمعت عليه القوى الكبرى الفاعلة في العالم، خذلته الحواضر العربية، وخانه الإبراهيميون على الأطراف، وسقطت رهاناته على كيانات سيئة التعريف كالأمتين العربية والإسلامية، وأشاح بوجهه عنه الضمير العالمي.
هذا كله مصدر ألم هائل. لن يفشل (ولم يفشل، بالتأكيد) شخص من أبناء الشعب وبناته، في أي مكان من العالم، في إدراك أنه هو، أيضاً، ينتمي إلى شعب الطفل القتيل في الصورة. ولن ينجو من إحساس بألم من نوع فريد تماماً، ومن عذاب "يا وحدنا". وفي المقابل، ثمة، أيضاً، ما يشبه إحساساً غامضاً ويتفاوت صعوداً وهبوطاً بالتفوّق، فإلى جانب صورة الضحية تلوح صورة المقاتل، التي رفعتها جراح نرجسية كثيرة إلى مكانة لا يدانيها شيء آخر.
نعثر في كل ما تقدّم على مصدر هائل لشحن الهوية الوطنية الجامعة بروح جديدة. والصحيح أننا لن ندرك حجم وأهمية الرصيد الرمزي، والمعنوي، والسياسي، إلا بعد مرور وقت طويل (لن يفكر أحد قبل مرور بعض الوقت بضرورة أو حتى وجود هذا المصدر). وفرضيتي، في هذا الشأن، أن هذا الحدث يمثل عاملاً توحيدياً للهوية الوطنية الجامعة، ويردفها بطاقة متجددة، إذا استوعبنا حقيقته، وحجمه، ونجحنا في استخلاص دلالاته الفكرية والثقافية، وما يحتمل من ترجمات سياسية.
ثالثاً، وككل شيء آخر، فلنقل: إن تأويل ما يحدث، ومحاولة استخلاص دلالاته، ليس بريئاً، وكذلك اللغة التي تُصاغ بها نشرة الأخبار، وما يحضر أو يغيب من مفردات في تحليلات وتصريحات يومية، ليست ممارسات بريئة: كلها تندرج في محاولات لصياغة سردية خاصة ودحض غيرها.
وفي سياق كهذا، دعا بعض الناطقين الإسرائيليين إلى تكبيد الفلسطينيين نكبة ثانية. وهناك في حواضر بركت كالأبقار الذبيحة من يمارس بلا استحياء لوم الضحايا، بينما يقف بعض الناطقين الإبراهيميين في صف الإسرائيليين، واليمين الغربي الجديد، إلى جانب إسرائيل في حرب الدفاع عن "العالم الحر".
لذا، ثمة ما يبرر الحيلولة دون نجاح هؤلاء، بكل ما لديهم، وعلى الرغم مما لديهم، من وسائل الإقناع بالقوة والمال، في تكريس سرديات: تلوم الضحايا، وتكرّس الأمر الواقع، وتُزيّن الرضوخ. وهذه حرب حقيقية، تُخاض على مستوى الرموز والمعاني، وكارثة الواقع اليومي المُعاش وإكراهاته، في التحليل الأول والأخير.
وبما أنها حرب لا تقل شراسة عن حرب الميدان، فلن يجد الفلسطينيون المنابر التي وفرتها مصر الناصرية، والقوميات والجمهوريات الراديكالية، بعد النكبة الأولى. وبالنظر إلى المياه التي جرت تحت الجسر، وصعود الإبراهيميين، وظلم وظلام الحواضر، وحقيقة وجود أكثر من جيل من المثقفين والأكاديميين الفلسطينيين وعرب الحواضر في الغرب، وما شهدت الجامعات هناك من تحوّلات راديكالية في العقود القليلة الماضية، أعتقد أن الغرب هو المكان الوحيد التي تتوفر فيه ضمانات وحريات تسمح بتحويل الرصيد الرمزي إلى طاقة سياسية هائلة. فاصل ونواصل.
حول أسئلة «ما بعد الصفقة» مرّةً أخرى!
09 مايو 2024