في أغلب الظن نعم.
لم يكن ممكناً أن تبدأ إسرائيل قرارها بتوسيع الحرب بالطريقة التقليدية، كأن تبادر إلى قصف جوّي شامل لمواقع "حزب الله" في الجنوب اللبناني، وفي كل لبنان، أو تدخل بقوّاتها البرّية على الفور، لأنّ من شأن قرار كهذا أن يضع حلفاء إسرائيل في دائرة الحَرَج، وفي دائرة التنصُّل السياسي على الأقلّ، وربّما في دائرة الدعم العسكري السافر.
والسؤال الآن هو: هل باتت الولايات المتحدة على علمٍ وقناعة بأنّ إسرائيل ماضية في قرار التوسيع عَبر موجةٍ من الاغتيالات و"العمليات الخاصة"، والتي ستؤدّي عند درجةٍ معيّنة إلى استدراج "حزب الله" إلى الحرب بدلاً من الاستنزاف الذي يقوم به الحزب للقوات الإسرائيلية، وبدلاً من الشلل الذي أصاب كامل المنطقة المحاذية لكلّ الجنوب.
الجواب في أغلب الظنّ نعم.
السلوك الإسرائيلي ليس له علاقة بالمرحلة الثالثة أو الرابعة أو غيرها، لأنّ سلسلة الاغتيالات التي بدأت بالمستشار الإيراني رضي الموسوي، ثم الاغتيال الذي قامت به في الضاحية الجنوبية للقائد الوطني الكبير صالح العاروري، بكلّ ما يمثّله هذا الاغتيال من دلالة المكان، ورمزية القائد المستهدف، وربّما التفجير الذي استهدف من كانوا في زيارة ضريح القائد السابق لـ"الحرس الثوري" الإيراني قاسم سليماني [أثناء كتابة هذا المقال]، وسقوط عشرات الضحايا، في رمزية أخرى للمناسبة والمكان والتوقيت، ربّما أنّ هذه الموجة والسلسلة هي "الاستراتيجية" الجديدة لإسرائيل للخروج من فشلها الكبير في قطاع غزة، وربّما أنّها تراهن على توسيع الحرب لكي يُصار فيما بعد إلى وقفٍ شامل لإطلاق النار على كلّ الجبهات المشتعلة في حينه، وبذلك تكون القيادة الإسرائيلية في "حِلٍّ" من هزيمة غزّة، وتكون الحلول المطروحة، والشروط المطلوبة لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار الشامل أكبر وأعقد من أن يتمّ تحميل هذه القيادة المسؤولية المباشرة عنها.
أقصد أنّ توسيع دائرة الحرب، ليس مصلحةً أميركية، ولا "غربية"، وربّما ليس مصلحة إسرائيلية إذا أخذنا ما يمكن أن يترتّب عليها من نتائج على دولة الاحتلال، وإنّما هي مصلحة مباشرة لهذه القيادة، وهو مخرجها الذي باتت تراه حتمياً إذا كان لديها من فرصةٍ لخلط الأوراق، والتهرُّب من مسؤوليتها المباشرة عن الفشل الإسرائيلي الذي بات من المستحيل التستُّر عليه.
دخلت هذه القيادة الإسرائيلية الآن في مرحلة حرجة، وتحوّل وقف إطلاق النار في القطاع إلى أكبر كوابيسها.
فهي لم تعد تأمل بأيّ إنجازات حقيقية طالما أنّ فردة حذاءٍ للسنوار، أو ورقة هويّة محمد الضيف تحوّلت بقدرة الإعلام الإسرائيلي، وفي عُرف هذه القيادة إلى أحد "إنجازات" الحرب التي تشنّها منذ ثلاثة أشهر بالتمام والكمال على القطاع.
ثم جاءت طامة كبرى جديدة في قرار "المحكمة العليا" الإسرائيلية، وهو قرار "يجرّدها" من كلّ قاعدة الارتكاز الأساسية في كامل الملفّ القضائي، وأصبح الوضع الداخلي في إسرائيل في ضوء قرار المحكمة محسوماً ضدّ توجّهات كلّ أطياف "الائتلاف" الممسك بالسلطة التنفيذية، وعاد القضاء للرقابة عليها، وعلى قراراتها، وفشل مشروع فرض الديكتاتورية بوسائل "ديمقراطية".
أمّا استطلاعات الرأي فهي صادمة بالكامل، فقد وصلت شعبيّة بنيامين نتنياهو إلى حدود الـ 15% فقط، ويتراجع "اليمين الجديد" كلّه، ويهوي حزب الليكود، والذي هو وحده النواة الصلبة لكلّ تطرُّف وعنصرية، وهو "المايسترو السياسي" بكلّ موجات وحملات "اليمين" في العقدين الأخيرين على الأقلّ.
لا يستطيع "الليكود"، ولا الجناح "الكهاني" كلّه أن يقدّم للجمهور الإسرائيلي إنجازاً سياسياً، أو اقتصادياً أو اجتماعياً واحداً، في حين أنّ قائمة الإخفاقات والفشل طويلة وممتدة، وما زالت مستمرة على كلّ المستويات، وفي كلّ المجالات. وهي تتعمّق كلّ يومٍ على مستوى الفشل العسكري، وعلى مستوى الخسائر الكبيرة في صفوف القوات العاملة في غزّة، وفي جنوب لبنان، والقطاعات الاقتصادية كلّها في تدهور مستمر، والخسارات السياسية والدبلوماسية مُدوّية وغير مسبوقة، وعاد المجتمع الإسرائيلي إلى التصدُّع والانشطار بالرغم من حالة الحرب، وما زال المجتمع الإسرائيلي يشعر بخيبةٍ كبيرة، ويريد الحرب والتدمير والإبادة، ومستعدّ لدعم الحرب ولكن ليس تحت هذه القيادة، بل إنه في الواقع يرى أنّ لا إمكانية لربح الحرب في ظلّها، وتحت إشرافها.
باختصار فإنّ القيادة الإسرائيلية إن لم تتمكّن من توسيع الحرب فإنّها لن تتمكّن من إخفاء فشلها، وإنّ لم تتمكّن من استدراج الإقليم أو بعضه إلى حربٍ أكبر، فهي ستسقط حتى دون أن يكون لها أيّ فرصٍ للمراوغة والتلاعب.
فهل يُعقل أن تسلّم هذه القيادة بالنهاية المحتومة طالما أنّها لم تتمكّن حتى الآن من تقديم إنجازات سوى تدمير القطاع، وقتل المدنيّين فيه، وتحويل حياتهم إلى مستحيل؟
وماذا سيقدّم هذا الأمر لإسرائيل في ميزان الأمن الذي تقول بأنّها تقوم بالحرب من أجل تأمينه؟
وهل احتلال "محور فيلادلفيا" سيقرّبها من الوصول إلى الأمن، أو من القدرة على تصفية المقاومة في غزة؟
ورقة التهجير هي الورقة التي تراها، وترى فيها "إنجازها الأكبر"، وهذه الورقة بالذّات تعني استمرار الحرب، واستمرار استنزاف جيش الاحتلال في القطاع، و"الانكفاء" إلى "منطقة الغلاف" ستحرمها من السيطرة المباشرة على هذه الورقة، ولذلك فإنّ هذه القيادة بدأت تفقد الثقة في استخدامها كـ"إنجاز مقنع" على المستوى الداخلي، ولذلك بالذات فإنّ إسرائيل تحت قيادة نتنياهو ستهرب من [الدلف إلى المزراب]، لأنّ كلّ الخيارات الأخرى هي دون مستوى "الانتصار"، وهي أبعد ما تكون عن الإنجازات المطلوبة.
القيادة التي ترى أنّ كلّ عشيرةٍ كبيرة في قطاع غزّة المقسّم إلى أربع أو خمس مناطق هي التي ستتولّى "السلطة" في القطاع، بعد "إنهاء"، ("حماسستان" و"فتحستان") هي قيادة منفصلة عن الواقع تماماً، وهي قيادة ضعيفة وهشّة، وفاقدة للاتزان والجدارة.
هذه قيادة تجرّ المنطقة والإقليم، من وحي رؤاها ومصالحها المباشرة إلى ما يمكن أن يكون زلزالاً مُدمّراً، وإلى سعير نارٍ تأكل الأخضر واليابس، وهي تقود، وستقود كلّ شعوب الإقليم إلى حروب طاحنة من الدمار والكراهية، وإلى دوّامات لا تنتهي من العنف والخراب.
الولايات المتحدة التي تحاول أن توحي للمجتمع الأميركي، وللإقليم، ولـ"الغرب"، أيضاً، بأنّها ليست جزءاً من هذا المسار المدمّر، تتحمّل المسؤولية الأولى والأكبر عن هذا الواقع الكارثي، وهي الوحيدة القادرة على وضع حدّ فوري له لأنّ تفادي الفشل الإسرائيلي لم يعد ممكناً، والأمل بنجاح إسرائيل في فرض شروطها، ورؤيتها أصبح خلفنا، والأجدر بها ــ أي الولايات المتحدة ــ أن تتقبّل الفشل الإسرائيلي كفشلٍ ما زال محصوراً في إسرائيل نفسها، وكفشلٍ لقيادتها قبل كلّ شيءٍ قبل أن يتحوّل هذا الفشل إلى فشلٍ أميركي و"غربي" إن استطاعت.
وحتى لو أنّ الفشل الإسرائيلي سيطال أميركا و"الغرب" كلّه، بهذا القدر أو ذاك، وإلى هذه الدرجة أو تلك، إلّا أنّ وقف هذا المسار نحو توسيع الحرب هو الفشل الأقل كلفةً على الولايات المتحدة، وعلى "الغرب"، وعلى كلّ الإقليم.
العالم كلّه يقف على رِجلٍ واحدة، وفرنسا ومن خلفها أوروبا شرعوا في الحديث عن الأخطار، والولايات المتحدة ما زالت تتردّد في اتخاذ الخطوة الحاسمة، هذا هو أخطر ما في الأمر كلّه.