بدأ قادة الحرب الإسرائيليون يعلنون عن الانتقال تدريجيا إلى ما يسمونه المرحلة الثالثة من الحرب، وهذا يعني أن طبيعة الحرب ستتغير عما كانت عليه خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وهم يقصدون بالطبع بالمرحلة الأولى، تلك الفترة التي امتدت ثلاثة أسابيع، منذ اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، وتم التركيز فيها على القصف الجوي المتواصل، والذي عادة تبدأ به الجيوش للتمهيد للاجتياح البري، بعد أن يكون الطيران الحربي قد مهد الطريق للقوات البرية.
وفي حالة إسرائيل مع غزة، فإن القصف الجوي يعتبر أمرا في منتهى السهولة، ذلك أنه يكون حربا من طرف واحد فقط، فغزة ليس لديها ولا حتى طائرة واحدة، ولا حتى مضادات للطيران، ولأجل هذا حاول بنيامين نتنياهو أن يواصل المرحلة الأولى لأطول فترة ممكنة، رغم أن القصف الجوي أوقع مجازر بالجملة في حق المدنيين، ورغم أن الطيران الحربي الإسرائيلي، لم يتوقف عن مشاركة وإسناد القوات البرية حين بدأت تخترق الحدود مع غزة، وتهاجم مدن وبلدت وحارات قطاع غزة بالدبابات والآليات العسكرية، مع إطلاق نار كثيف من الدبابات والمدافع.
أما المرحلة الثانية، وهي ما أطلقت عليها إسرائيل مصطلح المناورة البرية، فقد قسمتها بدورها إلى مراحل، الأولى منها خصصتها لشمال القطاع، حيث دخلت قواتها البرية على غير المتوقع، من الشمال الغربي، وليس من الشرق، أي أنها تجنبت الاشتباك مع قوات المقاومة، التي قدرت بأنها تقيم تحصيناتها ومصداتها ومواقعها الدفاعية على طول الحدود الشرقية، وذلك لتتجنب إلحاق الخسائر البشرية وفي المعدات بقواتها، أي أنها كانت تحسب حسابا كبيرا للمقاومة، رغم أنها دفعت بنحو مئة وخمسين ألف جندي من قوات المشاة، مع مئات الدبابات والمدافع والآليات، لمواجهة أقل من خمسين ألف مقاتل فلسطيني، وقد اتضح التكتيك العسكري الإسرائيلي، حين لاحظ المراقبون أن قواتها البرية بعد أن دخلت الشريط الحدودي الشمالي، والشمالي الغربي، واقتربت من مدينة غزة، دخلت إليها خلال معارك طاحنة من الشمال الغربي معززة بزوارقها الحربية، مخترقة مخيم الشاطئ باتجاه مستشفى الشفاء، الذي كانت تقدر خطأ بأن قيادة المقاومة موجودة تحت أرض المستشفى، وكذلك من جهة الجنوب الشرقي، من منطقة جحر الديك وحارة الزيتون وصولا إلى تل الهوى والشيخ عجلين، وذلك لتطويق مدينة غزة، وفصل شمال القطاع عن وسطه وجنوبه.
وكانت التقديرات تشير إلى أن إسرائيل ستواصل «تمشيط» الأرض الفلسطينية، فبعد شمال القطاع، أي بيت حانون وبيت لاهيا ومدينة غزة، ستواصل تقدمها «وسيطرتها» على وسط القطاع، ممثلا بدير البلح ومخيمات الوسطى، البريج والنصيرات والمغازي، لكنها وإزاء مواجهة مقاومة شرسة، ومع تعثرها في تحقيق منجزات عسكرية مهمة، وفي نفس الوقت مع تزايد الضغط الدولي الذي تحول في الأسابيع الأخيرة إلى خلاف بين تل أبيب وواشنطن، التي حددت طوال الوقت فترة الأسابيع وليس الأشهر ولا السنوات للحكومة الإسرائيلية حتى تنتهي من الحرب، وتحقق أهدافها، التي كانت غير واضحة لواشنطن، لأن بنيامين نتنياهو يخفي حقيقة تلك الأهداف، وهو يقول لها إن هدفه هو سحق حماس وتدمير قوتها العسكرية، لأنها توافقه في هذا الهدف، ويخفي هدفه العنصري الذي يسعى إلى تحويل قطاع غزة إلى منطقة فارغة من السكان، إن كان بقتلهم أو تهجيرهم، وقد دلل على ذلك بمواصلة إلحاق الخسائر الفادحة بالمدنيين رغم احتجاج واشنطن الباهت، وواصل الحديث عن سيطرة إسرائيلية على غزة بعد الحرب ورفض عودة السلطة لها، لكل هذا فإن إسرائيل تعلن اليوم عن الانتقال للمرحلة الثالثة، وهي لم تنتهِ عمليا أو باللغة العسكرية من المرحلة الثانية، وهي دخول كل مناطق الوسط والجنوب، وهذا بات أمرا مستحيلا، لأنه إضافة إلى أن الوقت قد نفد، فإن نحو 80% من سكان القطاع باتوا موجودين في وسط وجنوب القطاع، خاصة في رفح، التي هي بالذات لا تحتمل عملية برية كتلك التي وقعت في شمال القطاع، لأن الخسائر في أرواح المدنيين ستكون هائلة، ولأن مثل تلك العملية وربما من يومها الأول، ستؤدي إلى انهيار الجدار المصري في وجه المواطنين، وحينها قد تجد مصر نفسها في مواجهة عسكرية مع إسرائيل.
أما المرحلة الثالثة، فتعني ميدانيا، أن تعيد القوات الإسرائيلية انتشارها، بما يتضمن خروجها وانسحاب قواتها البرية التي دخلت حدود قطاع غزة، وما يدلل على ذلك هو ترافق الحديث عن المرحلة الثالثة، مع سحب خمسة ألوية عسكرية من أصل نحو أحد عشر، كانت دخلت قطاع غزة، وذلك بحجة أن القوات مرهقة وأن ذلك يأتي في إطار عملية التداور بين القوات، وأن تلك الألوية سيتم الزج بها في جبهة الشمال، أي أن إسرائيل «تهرب» من جبهة الجنوب، بعد حربها الإجرامية ضد قطاع غزة، إلى الشمال، لتشن حربا ثانية ضد حزب الله، بعد أن حاولت خلال الشهور الثلاثة الماضية جره للحرب الشاملة، بما يؤدي إلى دخول أميركا الحرب معها، لكن أميركا، بدأت شيئا فشيئا تكتشف نوايا نتنياهو الحقيقية، وقد عبرت عن استيائها، بعد أن اكتشفت أن نتنياهو قد حول جو بايدن إلى دمية يلعب به كما يشاء، لغرض التهرب من استحقاقه الداخلي، الذي سيعني بكل بساطة، أن يدخل السجن أو يعود إلى بيته دون أن يسمح له بالعودة للمسرح السياسي.
أحد أهم مظاهر الضغط الأميركي على نتنياهو لوقف الحرب، كان سحب حاملة الطائرات جيرالد فورد، ليس من قبالة الشواطئ مع لبنان فقط، بل من كل الشرق الأوسط وعودتها إلى بلادها، وهذا أيضا يؤكد ما سبق وأن أعلن عن أن إدارة بايدن كانت حددت نهاية العام المنصرم، حتى توقف إسرائيل الحرب، وهكذا فإن نتنياهو الذي كان قد أعلن تحديه الضغوط الدولية، وهو يعرف أنه لا يهتم إلا بالضغط الأميركي، يكون قد تراجع نصف خطوة، فهو أعلن وقف الحرب، وتغيير تكتيكها، وهو ما زال يحاول فتح بوابة حرب أكثر شراسة مع حزب الله، وآخر محاولاته في هذا الصدد كان اغتيال الشيخ صالح العاروري نائب رئيس مكتب حماس السياسي، ضربة لحماس، تذكّر إلى حد ما باغتيال أبو جهاد لمحاولة كسر الانتفاضة العام 1988، وذلك لكونه شخصية مهمة ومركزية في حماس، وليست اعتبارية أي لأنه نائب رئيس الحركة، بل لأنه قاد مهمة تعزيز المقاومة المسلحة في الضفة الفلسطينية، تماما كما فعل الشهيد أبو علي مصطفى، العام 2001، وكما كان قرار الرئيس أبو عمار تأسيس كتائب الأقصى سببا في اغتياله أيضا، كذلك جاء اغتيال العاروري بمثابة ضربة موجهة لحزب الله بقدر ما هي موجهة لحماس، وذلك لسببين، أولهما أن العاروري كان يقيم في الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، بما يعني أن الحزب عجز عن حمايته، وثانيهما، أن العاروري كان بمثابة شبيه زياد النخالة في حماس، أي رجل محور إيران في حماس، من بين قيادة حماس السياسية التي بمعظمها هي أقرب لقطر وتركيا.
والمرحلة الثالثة، حتى مع خروج القوات الإسرائيلية من شمال ومدينة غزة، فإن ذلك لا يعني أن تخرج تماما، فهي قد تبقى في منطقة عازلة في الشمال والشرق، وقد تفرضها بقوة النار، كما أنها وكما قلنا في مقالات سابقة منذ بدأت الحرب، بأنها ستفعل في نهاية الأمر ما تفعله في جنين ونابلس وطولكرم، أي ستتبع تكيتك البوابة المتحركة بالدخول والخروج في أي وقت، لقصف وقتل وتدمير من تريد قتله وتدميره، وهو ما تسميه حرب الاستنزاف، وكان جمال عبد الناصر قد خاض مثل هذه الحرب بعد هزيمته العام 67، لأنه لم يرفع راية الاستسلام بعد تلك الهزيمة، وهذا ما تفعله إسرائيل اليوم، لأنها ما زالت تكابر، ولا تريد أن تعترف بالحقوق الفلسطينية كدرس أساسي بعد طي صفحة هذه الحرب، وهكذا فإن من شأن المرحلة الثالثة في الحرب على غزة، مع أو دون حرب ثانية مع حزب الله، ستعني لإسرائيل أن تبقى في حالة الحرب، وكل ذلك يهدف إليه نتنياهو للبقاء داخل موقع رئاسة الحكومة الإسرائيلية، ليظل في منأى عن المساءلة القانونية، وهو يمني النفس بالوصول إلى موعد الانتخابات الأميركية على هذا الحال، لعل وعسى يعود إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، أو حتى نيكي هايلي، أي رئيسا جمهوريا، يوافقه على بقاء بن غفير وسموتريتش في الحكومة، وعلى تخيير الفلسطينيين بين القتل والتهجير، وفي أسوأ الأحوال، إذا ما واصل بيني غانتس ويوآف غالانت، التوافق مع مؤسسات دولة إسرائيل العميقة، أي الجيش والأمن، والابتعاد شيئا فشيئا عن حسابات نتنياهو الشخصية، فحينها سيحاول نتنياهو أن يعقد صفقة مع خصومه، مضمونها مبادلة وقف الحرب بخروجه الآمن من الحكم.