الحرب على غزة أيضاً ثقافية

تنزيل (13).jpg
حجم الخط

بقلم عاطف أبو سيف

 

 

خلال الحرب تعرض القطاع الثقافي والتراث المادي وغير المادي لخسائر جسيمة جراء القصف والتدمير الإسرائيلي.
لم تكن حرباً بل هي مجموعة حروب مركبة تشنها دولة الاحتلال على المكان وعلى الإنسان في فلسطين، حروب تهدف لمواصلة جريمة النكبة التي لم تتوقف منذ قرابة 76 سنة.
النكبة جريمة مستمرة وستظل مستمرة طالما ظل الاحتلال وطالما واصل جرائمه وواصل حضوره البشع في حياتنا.
وكما دائماً كانت الثقافة ضحية كبرى لكل سياسات الاحتلال وتعرضت بمكوناتها ومرافقها والقائمين عليها لعملية استلاب وتدمير ممنهجة لا يمكن أن تكون نتيجة عرضية لفعل الحرب، بل أخذت شكلاً خاصاً بها يمكن استكشاف كنهه من طبيعة خسائرها منذ اليوم الأول للحرب.
لنتذكر أن الحرب الكبرى التي تشنها دولة الاحتلال وقبلها العصابات الصهيونية والحركة الصهيونية والآن أيضاً الصهيونية العالمية هي حرب على الرواية الفلسطينية وحرب على الذاكرة والسردية الوطنية، حرب تستهدف الهوية الوطنية الفلسطينية وطمس كل ما يشير إلى الوجود القوي والحضاري لشعبنا في بلاده لأن الغرباء يشعرون بغربتهم عن الأرض كلما تذكروا أن ما على الأرض من شواهد وما في جوفها من لقى يشير إلى غربتهم عنها وإلى ملكية أصحابها لها، لذا فإن مثل هذه الشواهد وهذه اللقى تمثل إدانة وفشلاً لهم في ذات الآن وعليه يقومون إما بسرقتها ومحاولة نسبها لأنفسهم عبر سياقات غير منهجية وغير سليمة علمياً أو تاريخياً أو بتدميرها إذ تعذر عليهم نسبها لأنفسهم.
والشواهد في السنوات المائة السابقة تقول ذلك بوضوح.
مثال آخر على قصص السرقة التاريخية تلك، السيوف الحديدية التي وجدت في أحد كهوف البحر الميت وقالت دائرة الآثار في دولة الاحتلال إن السيوف الرومانية قد سرقها «متمردون» يهود من الجنود الرومانيين وقاموا بتخبئتها في الكهوف خوفاً من بطش الجيش بهم.
كذبة لا يمكن مثلاً أن تدخل عقل طفل. فالسيوف منقوش عليها بالروماني وهي ذات السيوف الموجودة في متاحف مختلفة، وعليه فلا يمكن مثلاً القول إنها ليهودي، لذا فإن الحل أن يتم القول إن اليهود انتزعوها من الرومان متناسين أن مثل هذا الاحتمال يكاد تاريخياً تكون نسبة واقعيته صفراً.  
هذه الحرب الثقافية ما زالت مستمرة وتأخذ أشكالاً متطورة ومتعددة. لنتذكر حقيقتين. الأولى أن إسرائيل بدأت كذبة ثقافية في الوعي الغربي قبل أن تتحرك الصهيونية للضغط باتجاه تحقيقها.
خلال عمليات معقدة من التزوير والترويج واستخدام النفوذ تم غرس فكرة وجود دولة لليهود في فلسطين بل إن الاستشراق برمته وظف كل أدواته من أجل ذلك.
مثلاً لم تكن لوحات الفنانين المستشرقين التي جسدوا فيها المدن الفلسطينية في القرن التاسع عشر إلا جزءاً من هذا التوظيف حيث تم في معظم الحالات رسم المكان شبه فارغ والإنسان هشاً بائساً.
الثانية أن العصابات الصهيونية خلال العام 1948 سرقت كل الممتلكات الثقافية في البلاد ودمرت أجزاء منها خلال ذلك.
دور السينما والمسارح تمت سرقتها كما تمت سرقة البيوت. اللوحات الفنية تم نزعها عن الجدران وتمت سرقة المطابع والصحف والكتب والآلات الموسيقية كما تم السطو على الإذاعة وتحويل معداتها للإذاعة الصهيونية.
عمليات السرقة لم تتوقف عند حد وكان جوهر ذلك سلب الفلسطينيين ما لهم ونسبه للأغيار بغية تثبيت الرواية القائلة بعدم وجود شعب في البلاد وأنها كانت أرضاً بكراً تنتظر المستوطنين الغرباء حتى يعمروها.
الآن ما يجري في غزة من حرب شرسة على الثقافة وعلى المباني التاريخية هو استمرار كل هذه المجازر بحق الثقافة الفلسطينية، المجازر التي لم تتوقف ومستمرة حتى اللحظة.
معظم المسارح والمؤسسات الثقافية والمكتبات العامة تم هدمها بشكل جزئي أو كامل، كما تم قصف المطابع والمتاحف وسرقة أو تدمير اللقى الأثرية فيها.
لا يوجد احتلال في العالم يقصف ذاكرة الآخرين إلا من ليس له ذاكرة مثل حظنا بهذا الاحتلال الغريب. مئات المباني التاريخية تم هدمها بما في ذلك المساجد والكنائس والأسواق والحمامات القديمة.
الاحتلال وضع الثقافة هدفاً وقرر أن يمحو هوية المدينة. إنها حرب على الزمان أيضاً من خلال محو التاريخ وإزالة شواهدة، وهي حرب على المكان بغية تغير معالمه وكنسه ونفيه خارج سياق السرد التاريخي.
إنها الحرب الأبشع لأكثر من سبب لكن المؤكد أنها جزء من حرب أوسع. فما يجري في غزة أيضاً يجري في الضفة الغربية خاصة في القدس.
تتم سرقة الآثار الفلسطينية في القدس وسبسطية والخليل ويتم هدم البيوت التاريخية في نابلس، كما يتم هدمها في غزة ويتم تدمير الميادين العامة في جنين كما يتم هدم ميدان الجندي المجهول في غزة، ويتم الاعتداء على مسرح الحرية كما يتم هدم مسرح رشاد الشوا.
عملية واحدة تستند إلى فلسفة واحدة ولها هدف واحد يتمثل في محو الهوية الوطنية وسرقة الذاكرة وإزالة كل الشواهد التي تشير إلى فعالية شعبنا وحضوره المستمر عبر التاريخ.
مرة أخرى جوهر الحرب الصهيونية على فلسطين هو محاولات طمس الهوية الثقافية لشعبنا ومحو ذاكرته واستلاب مقدراته وسرقة منجزاته.
ما تقوم به دولة الاحتلال هو اعتداء على الزمان، على الماضي وعلى الحاضر وتشويه للمستقبل، وما تقوم به هو اعتداء على ذاكرة العالم بوصف المقتنيات الثقافية الفلسطينية والآثار الفلسطينية جزءا مهماً من الآثار العالمية وتدلل على حقب حضارية مختلفة هي جزء من حضارات شعوب الأرض كافة. والعالم حين يصمت على ذلك فهو يصمت على محو تاريخه أيضاً.