ثلاثة وتسعون يوماً انقضت من حرب، لم تعهدها إسرائيل منذ قيامها. كانت كافية لرسم المشهد الصراعي، من حيث طبيعتها ومآلاتها، وقدمت للعالم أجمع، الخصائص الجوهرية للمشروع الصهيوني، وأيضاً الخصائص الجوهرية للأهداف التحرّرية الفلسطينية.
قدمت إسرائيل خلال مجريات الحرب، طبيعتها الفاشية العنصرية، وحقدها وكراهيتها للإنسان الفلسطيني، ومنطقها الاستعلائي، ورغبتها في شطب الشعب الفلسطيني عن خارطة الوجود ومصادرة كل أسباب وعوامل حياته وحقوقه.
ليس بإمكان كل محامي الدفاع، والخبراء القانونيين في الدنيا التستّر على ما تمارسه إسرائيل، من حرب إبادة جماعية، وقتل كل وسائل الحياة لأكثر من مليوني فلسطيني.
ومع انكشاف طبيعة المشروع الصهيوني وأدواته، انكشفت طبيعة الولايات المتحدة وحلفائها، الذين وقفوا بالباعِ والذراع مع دولة الاحتلال، وباعتبارها، العدوّ الأول والأساسي لكل شعوب الأرض، وسقوط منظومتها الأخلاقية والحقوقية.
الإدارة الأميركية هي من تدير الحرب وتتحكّم في مقودها، وتتحمّل جزءاً كبيراً من تكاليفها، أموالاً، وأسلحة وذخائر، وسمعة، ومصالح ومكانة، ما يؤكّد أن إسرائيل دولة وظيفيّة في خدمة الأهداف الاستعمارية للدول الغربية.
قالها جو بايدن، بعد أن أعلن صهيونيته، إن أميركا كانت ستخلق إسرائيل، لو أنّها لم تكن موجودة، ما يعني أنّ إسرائيل أداة استعمارية ليس لشطب الشعب الفلسطيني ومصادرة أرضه وممتلكاته وإنّما تتّسع الأهداف الاستعمارية لتشمل كل منطقة الشرق الأوسط.
بعد ثلاثة وتسعين يوماً، تسقط عُروش، وتسقط أهداف ذات أبعاد استراتيجية، وتعترف كل الأطراف المنخرطة إلى جانب إسرائيل بالفشل الذريع.
ليس هذا وحسب، بل إن مجريات الحرب، كشفت مدى ضعف وتخاذل الأمّتين العربية والإسلامية، وعمق خضوعهما للهيمنة الأميركية وللحسابات الوطنية الخاصة، ما يُنذر بتغيّرات مرتقبة، في كثير من هذه الكيانات التي تشهد غلياناً شعبياً عارماً.
أرادت الولايات المتحدة أن تؤدّي الحرب إلى تخطّي القضية الفلسطينية من خلال التهجير، وقتل روح المقاومة، لكي تفتتح مرحلة إعادة هيكلة الشرق الأوسط بما تخدم تعميق الهيمنة، ومرّة أخرى على طريق «سايكس – بيكو».
فشل التحالف الدولي «الغربي»، وكتيبته المتقدمة إسرائيل في تحقيق أي من هذه الأهداف ذات الأبعاد الاستراتيجية الخطيرة.
هم يعترفون بذلك، فلا التهجير وقع.. فالشعب الفلسطيني صامد على أرضه، ولا نجحوا في تخطّي وتصفية القضية، وبالتالي توقّفت أحلامهم بالسيطرة على الشرق الأوسط.
يعترف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أنّ الولايات المتحدة فقدت السيطرة على الشرق الأوسط، وأول حصادها المرّ بدء المفاوضات العراقية مع «التحالف»، لإخراج ما تبقّى من قوات وقواعد في العراق، وفقد السيطرة على أحد أهمّ الممرّات الدولية للتجارة العالمية ونقصد باب المندب.
وتعترف إسرائيل، وحلفاؤها، بأنّ القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، وشطبها من المشهد، وتدمير قوتها وإنهاء التهديد من غزّة، أمر يستدعي استمرار الحرب إلى أشهر وربّما سنوات.
بعد ثلاثة وتسعين يوماً، دمّرت إسرائيل كل معالم الحياة في شمال قطاع غزة، وتدّعي مصادرها العسكرية أنّها فكّكت الهيكل التنظيمي للمقاومة في الشمال، ولكن في كل مرّة يدّعون فيها ذلك، تندلع الاشتباكات، ويسقط الجنود والآليات في كمائن المقاومة، وتنطلق الصواريخ الفلسطينية نحو «الغلاف» وإلى تل أبيب.
بعد ثلاثة وتسعين يوماً، بل قبل ذلك، يكتشف الإسرائيليون والأميركيون أنّ الحرب أصبحت محكومةً للأهداف والمصالح الشخصية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وتحالفه الفاشي.
إسرائيل ليست معتادة، ولم يتمّ بناء جيشها لخوض حروب طويلة، وها هي تغرق في حرب استنزاف تكبّدها خسائر يومية فادحة في الآليات، والدبّابات، والجنود. هذا عدا الخسائر الأخرى الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وخسارة سمعتها التي أصبحت في الأرض، ومئات آلاف الإسرائيليين الذين يغادرون إلى الخارج.
يرفض نتنياهو البحث في ترتيبات اليوم التالي للحرب، ليس فقط لأنّه غير واثق من أنّه سيقرّر ذلك وإنّما، أيضاً، لأنّه وحكومته، سيكونان من ضحايا هذه الحرب.
في العادة، كانت كل إسرائيل تتوحّد خلف الحكومة والجيش حين تخوض حروباً خارجية، فالمكوّنات السياسية التي تفكّكت قبل الحرب على خلفية «الانقلاب القضائي»، عادت وتوحّدت، ولكنها عادت للتفكّك والصراع مرّة أخرى قبل نهاية الحرب.
الصراع بين القيادات العسكرية والحكومة أصبح علنيا وفي الشارع الإسرائيلي وكذلك الدولي، وأصبح من المتوقّع تفكّك الحكومة التي يشارك فيها معسكر الدولة بقيادة بيني غانتس.
ثمة اصطفاف للعسكر العاملين والمتقاعدين خلف رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي في مواجهة الحكومة ورئيسها.
وليس من عادة إسرائيل تشكيل لجان تحقيق في مجريات الحرب خلال استمرارها، لكن هليفي كسر القاعدة، وشكّل فريقاً للتحقيق برئاسة الوزير السابق شاؤول موفاز.
مراقب الدولة، أيضاً، أعلن أنّه سيشرع في تشكيل فريقٍ للتحقيق في مجريات الحرب.
لن ينجو نتنياهو الذي رفض الاعتراف بمسؤوليته عمّا وقع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، لكنّ ملف الفشل والمسؤولية أصبح طافحاً.
الشارع الإسرائيلي بدأ يتفاعل بقوّة حيث ترتفع المطالبات بوقف الحرب، واستقالة نتنياهو، والإفراج عن الأسرى عَبر صفقة بعد أن تبخّرت الوعود بإطلاق سراحهم بالقوّة.
خلف هذه اللوحة الصراعية، ستظهر الأصابع الأميركية، التي فقدت الثقة بقدرة إسرائيل على تحقيق أي هدفٍ، وتستعجل رسم المشهد الأخير.