تتصرّف الولايات المتحدة الأميركية في هذه الحرب وكأنّ اليوم الثاني لانتهائها بات محسوماً، وأنّ الأمر لا يعدو سوى وضع الترتيبات المناسبة لذلك اليوم.
و»تجتهد» الولايات المتحدة في شرح ما تراه مناسباً لذلك اليوم، وتعلن عن اختلافها مع القيادة الإسرائيلية حوله، وتتحاور مع بعض البلدان في الإقليم حول المشاركة في هذه الترتيبات بما في ذلك إعادة الإعمار.
وهذا كلّه يفترض أنّ الحرب عندما تنتهي ــ بصرف النظر عن موعد انتهائها ــ يكون قطاع غزّة تحت سيطرة إسرائيل، وتكون المقاومة قد هُزمت، وتكون البُنى العسكرية لهذه المقاومة قد دُمّرت أو تفكّكت، وتكون القوى السياسية في القطاع قد تشتّت، ولن يتبقّى في حينه سوى البدء بتلك الترتيبات.
وهذا يفترض، أيضاً، أن يعني بالضرورة انتصار إسرائيل، ووصولها إلى كامل أهدافها من هذه الحرب لكي يُصار إلى فتح الباب على مصراعيه لكي يتمّ التوافق والاتفاق بين إسرائيل والولايات المتحدة وبعض بلدان الإقليم، ولكي يتمّ في نهاية الأمر إيجاد الصيغة المناسبة، والآليات التي من شأنها أن تُرضي كافّة الأطراف!
ولا يُفترض أن تكون إسرائيل قد «انتصرت» في حربها على القطاع، وإنّما يُفترض، أيضاً، وبالضرورة أن تكون قد انتصرت، أيضاً، على «حزب الله» لأنّ الحزب كما نعلم يعتبر «هزيمة» المقاومة في القطاع مجرّد مرحلة انتقالية نحو إلحاق هزيمة بالحزب، وبكلّ «محور المقاومة»، وقد يفترض الأمر أن تكون إيران قد هُزمت هي الأخرى، وأن تكون الولايات المتحدة قد استكملت هيمنتها العسكرية في كامل الإقليم.
الافتراضات هذه هي المؤشّر الرئيس على «زمان الشقلبة»، وعلى إحلال التمنّيات والرغبات في مكان الواقع الذي يختلف كثيراً، وربّما يتعاكس كلّياً مع كل الافتراضات والتمنّيات والرغبات، أيضاً.
لو أنّ الولايات المتحدة جاهزة، وتسعى، ومستعدّة لحربٍ في منطقة الإقليم كلّه، وهي غير آبهةٍ بالأخطار التي تهدّد مكانتها الكونية في حالة فشلها في حرب كهذه، ولو أنّ «الغرب» كلّه يعتبر أنّ الحرب في كامل منطقة الإقليم هي الحرب التي تتصدّر الأولويّات، وهو مستعدّ لها، ومصمّم على الذهاب بها إلى أبعد الحدود، وهو يقف مع الولايات المتحدة في هذه الحرب دعماً لإسرائيل لتحقيق كامل أهدافها التي أعلنت عنها كأهداف قابلة للتحقيق مع نهاية هذه الحرب لأمكن من الناحية «المبدئية» فهم وتفهُّم طرح سؤال اليوم التالي بعد انتهاء الحرب في القطاع، وبالتالي بحث «الترتيبات» المطلوبة هناك.
أمّا أن تطرح هذه الترتيبات والولايات المتحدة تصرخ بأعلى صوتها أنّها لا تريد توسيع الحرب، وأن يهرع «الغرب» ممثّلاً في مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لكي لا يتمّ توسيع الحرب، وأن تكون إسرائيل عالقة في القطاع منذ أكثر من ثلاثة أشهر دون أن تحقّق هدفاً واحداً من أهدافها المعلنة لهذه الحرب، وتتكبّد خسائر فادحة، وأن تعجز عن تحرير ولو أسيرا واحدا أو أسيرة واحدة بعد 93 يوماً، وأن تكون «إنجازاتها» الحصرية هي الإبادة الجماعية، والتركيز على قتل وتشريد الأطفال والنساء، وأن تخسر كلّ شيءٍ، وأن تُغامر بالمحاكمة الدولية، وأن تفشل في «إعادة» مُهجّرٍ واحد إلى «الغلاف» وإلى الشمال، وأن تُعلن عن «إغراءات مالية» لمن يعود من المهجّرين، وأن يُطرح في اجتماعات الحكومة الإسرائيلية، وفي مجلس الحرب الموسّع والمصغّر إسكانهم في خيام أو بيوت جديدة، وأن يباشروا أعمالهم حيث يتواجدون الآن، وأن.. وأن.. وأن، ثم يتقاتلون فيما بينهم على ترتيبات اليوم التالي للحرب في قطاع غزّة فهذا هو «زمان الشقلبة» فعلاً.
أليسَ اليوم الثاني لانتهاء الحرب في القطاع هو مُحصّلة اليوم الذي سبق هذا الانتهاء؟
وهل هو يوم مُعلّق في الهواء؟، أم أنّ الميدان، والوقائع على أرض هذا الميدان هي التي ستحدّد الإطار الممكن لتلك الترتيبات التي تجهد الولايات المتحدة، وتجهد إسرائيل في بحثها، والبحث عمّا يمكن أن يشارك بها، ويُساهم في صياغتها، ويتحمّل المسؤوليات عن إعادة الإعمار وغيرها الكثير من هذه المسؤوليّات؟
كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ القيادة الأميركية تعيش في حالة مُنفكّة عن الواقع، وتمارس الرغبوية السياسية في قضايا استراتيجية خطيرة وحسّاسة، وتوحي لنفسها، ولحلفائها، أيضاً، في العالم وفي الإقليم تحديداً أنّ الأمور باتت «محسومة»، ولم يتبّق سوى الاتفاق والتوافق على هذه الترتيبات!
مفهوم تماماً أن تكون القيادة الإسرائيلية غارقة في وحل هذا التفكير الرغبوي، ومفهوم بأنّ حالة الفوضى العارمة فيها تتيح مثل هذا الشطط، ومفهوم أن «تُلاطِش» هنا وهناك، لأنّها «غرّزت» في كلّ المحاور، وليس أمامها أيّ مخرجٍ حقيقي من كلّ ما وقعت فيه، وأوقعت شعبها وجيشها في شركٍ نصبته لنفسها في لحظات من سُعار الصدمة التي تعرّضت لها في 7 من أكتوبر/ تشرين الأوّل، ومفهوم لأنّ الـ 7 من أكتوبر/ تشرينّ الأول، تحوّل في لحظاتٍ قليلة عند عُتاة «اليمين» و»جهابذة» العنصرية إلى فرصة العمر للانقضاض على الشعب الفلسطيني، وتحويل القطاع إلى حقل رماية بآلاف الأطنان من المتفجّرات على رؤوس المدنيين بصورةٍ متعمدة لا تحتاج إلى أدلّة أو إثباتات.
وهو «زمان الشقلبة» فعلاً لأنّ الأجدر بالولايات المتحدة أن تطرح وتناقش وتبحث عن اليوم التالي لإنهاء الحرب في دولة الاحتلال قبل بحثها عن الترتيبات في القطاع.
فمن حيث كلّ المؤشّرات، العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية فإنّ اليوم التالي لنهاية الحرب ستنشب فيه حرب حسب كلّ المعطيات على الأرض، وفي الميدان، في الواقع السياسي الإسرائيلي، في داخل الحكومة والجيش، وبين الجيش والحكومة، في الشارع الإسرائيلي كلّه، بين انقلابٍ قضائي يتمّ إجهاضه، وبين «معارضة» ستشمل الشوارع بعد الدقيقة الأولى لوقف إطلاق النار، بين مجتمعٍ يرغب في استمرار الحرب، وبين حربٍ لم يعد سهلاً الانتصار فيها، إن لم نقل إنّه لم يعد سهلاً تفادي الانكسار والهزيمة في نهايتها.
وقبل أن تنتهي هذه الحرب ستبدأ معارك الحساب والعقاب، ولن يفلت منهما من كان يدير إسرائيل إلى الهاوية التي أدّت إلى الـ 7 من أكتوبر/ تشرين الأوّل، ولن يفلت منها من أعلن الحرب في لحظةٍ من الغرائزية والانتقام، وعرّض إسرائيل لكلّ هذا الفشل، وهذه الإخفاقات بعد أكثر من ثلاثة أشهر من تكاليفها الباهظة.
هذا كلّه طبعاً إذا افترضنا أنّ الحرب لن تتوسّع أكثر بكثير ممّا هي عليه الآن، وأنّ الخراب والدمار في البُنى العسكرية والأمنية، والاقتصادية والاجتماعية، وما يرافق كلّ ذلك من أزماتٍ نفسية، ومن مشاعر فقد الثقة، والخوف من المستقبل، وغياب الأمن والأمان، ومعارك تبدأ ولا تنتهي أبداً حول ما وصلت إليه دولة الاحتلال، وحوّل المسؤولية التي يتحمّلها كلّ فريقٍ من الأحزاب والنُخَب والقيادات والمؤسّسات، وكلّ صانع قرار، وكلّ من يمتّ بأيّ صلةٍ للنتائج التي ترتّبت على هذا الواقع الذي ستكون قد أفرزته الحروب، أو الحروب التي ستتوالد عنها.
ولهذا كلّه فإنّ هذا الزمان هو «زمان الشقلبة».