المبادرات السياسية في مواجهة الحرب

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

لم يعد أحد في العالم ـــ تقريبا ـــ مقتنعا بمواصلة قادة الحرب الإسرائيليين لحربهم ضد قطاع غزة، التي لم تغير من طبيعتها الإجرامية بقتل المدنيين بالجملة، وتدمير كل ما له علاقة بالحياة في القطاع، بشكل عشوائي، مع انعدام تحقيق أي أهداف عسكرية أو سياسية، أي بما لا يدع مجالا للشك، بأن الحرب ما هي إلا تعبير عن نزعة فاشية في قتل الآخرين، على أساس عرقي، وما هي إلا محاولة لتحقيق هدف التطهير العرقي، وصولا لإفراغ قطاع غزة من مواطنيه، تمهيدا لاستيطانه من قبل الإسرائيليين ومن ثم ضمه لإسرائيل مع ما يعنيه ذلك من طي لصفحة الدولة الفلسطينية، ذلك لو أنهم نجحوا في ذلك فلن يتوقفوا عند هذا الحد، بل سيواصلون حرب الإبادة والتطهير العرقي في الضفة الغربية أيضا.
وبات الجميع بمن في ذلك معظم الإسرائيليين، أحزابا ومؤسسات وجمهورا، على قناعة بأن الدافع لمواصلة الحرب، يكمن في محاولة بنيامين نتنياهو البقاء في سدة الحكم، إلى حين أن تنشغل عنه الولايات المتحدة في انتخابات الرئاسة، وبذلك يصبح طريق الحرب أمامه مفتوحا طوال هذا العام 2024، على أمل أن تحمل له نتيجة الانتخابات الأميركية البشرى السارة، بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مجددا، أو حتى لو بقي جو بايدن في سدة الرئاسة، فلن يكون محكوما بحسابات الأصوات الانتخابية، في ولاية ثانية عادة ما يبدي خلالها الرؤساء الأميركيون اهتماما يذكر بالسياسة الخارجية، ويصبحون خلالها اقرب إلى أن يديروا الشأن العام دون الحاجة لاتخاذ قرارات حاسمة أو متأثرة بما يريده جمهور الناخبين.
ولهذا فإن الضغوطات تزداد كل يوم، مطالبة بوقف الحرب، خاصة على الصعيد العالمي، كذلك تزداد احتمالات توسيع دائرة الحرب، خاصة بعد أن بدأت المواجهات العسكرية تظهر بين الأميركيين واليمنيين في بحري العرب والأحمر، وحتى في العراق وفي جنوب لبنان، حيث لاح أكثر من مرة احتمال اندلاع الحرب الشاملة وانتقال ما يحدث من اشتباك محسوب، إلى حرب كاسحة، وفي حقيقة الأمر، فإن ما يجعل من الحرب الإسرائيلية على غزة مختلفة عما حدث من حروب ومواجهات عسكرية خلال العقدين الماضيين في أكثر من مكان، هو كون إسرائيل دولة محتلة، وان الشعب الفلسطيني يكافح من اجل تحرره من الاحتلال، والعالم منذ أكثر من سبعة عقود ما زال يتابع كيف أن إسرائيل تحولت من «دولة» صنعها الغرب بحجة وضع حد لمأساة اليهود الناجين من المحرقة، إلى دولة استعمارية، لا تكتفي بإنكار حق الفلسطينيين في الحياة وفي دولة خاصة بهم، كما قال المجتمع الدولي منذ قرار التقسيم حتى حل الدولتين، وحسب، بل تطمح للسيطرة على كل الشرق الأوسط، بإفراغه من عناصر قوته العسكرية والاقتصادية.
المهم، أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ترافقت مع اهتمام عالمي يومي، عبر التظاهرات وعبر التحركات السياسية، والاجتماعات واللقاءات على كل المستويات، وصولا إلى محكمة العدل الدولية، وبعد أن استمعت المحكمة منذ أسبوعين لمرافعة الادعاء والدفاع، العالم كله ينتظر ما ستقرره المحكمة، وهذا اليوم لم يعد بعيدا، لذا فإنه يضاف إلى الضغوطات الكثيرة والعديدة والتي تخرج من كل اتجاه، لكن قرار المحكمة لن يكون ضاغطا على حكومة الحرب الإسرائيلية وحدها، لهذا فإن الشرق الأوسط يشهد خلال هذه الأيام، اتصالات غير معلنة، تهدف إلى صياغة مبادرات عديدة، كلها يمكن النظر إليها باعتبارها مبادرات في مواجهة الحرب.
وكما يعرف كل من يتابع ويراقب المواقف الإسرائيلية، يدرك بأن دافع نتنياهو وأركان حكومته، هو نحو مواصلة الحرب لأجل غير مسمى، أو بالتحديد إلى حد الوصول بقطاع غزة إلى صحراء خالية من البشر ومن الحياة عموما، وطالما أن واشنطن ملتزمة بعدم السماح بهزيمة إسرائيل عسكريا، أو تفكيكها، وطالما لديها السلاح النووي، فإن أحدا لن يمنع إسرائيل وهي تحت قيادة التطرف الفاشي الحالي، من مواصلة هذه الحرب، حتى لو صدر قرار محكمة لاهاي ضدها، وحتى لو صدر قرار من مجلس الأمن ضد الحرب، فأميركا لن تتركها تواجه حربا إقليمية، وهي تفعل ذلك من ستة عشر أسبوعا، أي توفر لها الظرف للاستفراد بـ»حماس»، ولو دخلت الحرب مع «حماس» ضدها أطراف أخرى، فإن أميركا ستدخل الحرب معها، وهذا بالطبع فضلا عن أن تسمح للمجتمع الدولي بإرسال قوات عسكرية لتحرير أراضي دولة فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، كما فعل مع العراق حين أرسل قوات 30 دولة لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
وحيث إن قرار محكمة لاهاي من المتوقع أن يصدر خلال أسبوعين، فإن ذلك قد تحول لعامل ضغط على الأوروبيين أولا والأميركيين ثانيا، لذا فقد صوت البرلمان الأوروبي لصالح وقف الحرب، وتحدث عن مبادرة استئناف المسار السياسي، وعدد من الدول الأوروبية تتطور بمواقفها، فبلجيكا أعلنت بأنها ستكون مع قرار المحكمة، فيما تحدث رئيس وزراء إسبانيا عن مؤتمر دولي يفضي لاعتراف المجتمع الدولي كله بالدولة الفلسطينية.
أي أن المجتمع الدولي يطالب بوقف الحرب فورا، وبضرورة إقامة الدولة الفلسطينية لإشاعة الأمن والسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، أما في إسرائيل، فإن مثلث الحكم الفاشي يرد على العالم برفض الدولة الفلسطينية جملة وتفصيلا، وبالإصرار على مواصلة الحرب، فيما التناقض الداخلي يدور حول المحتجزين، حيث إن عائلاتهم والمعارضة الرسمية ممثلة بيائير لابيد تقول، إن الأولوية هي لإطلاق سراح المحتجزين عبر صفقة دبلوماسية، لأن الحرب لن تحررهم، بل ستزيد من احتمال قتلهم في نهاية المطاف، وقد وصل الأمر بلابيد أن يقول، إنه مع صفقة لإطلاق سراح الرهائن حتى لو كان ثمن ذلك وقف إطلاق النار.
هذا أبعد ما وصل له الضغط الداخلي الإسرائيلي، مع وجود مناكفات واحتكاكات بين المستويين السياسي والعسكري في «الكابينت»، أي بين غالانت وهرتسي هاليفي وحتى معهما غانتس وآيزنكوت، من جهة وبين نتنياهو ومعه وزراء التطرف في المجلس الوزاري المصغر.
وحقيقة أن الحرب قد أظهرت ما يشبه الزواج بالإكراه بين كل من حكومة الحرب وواشنطن من جهة، وما بين نتنياهو وغالانت، أو بين التطرف السياسي ومؤسسة الجيش، بعد أن اصطدم التطرف السياسي من قبل بالقضاء، ومؤسسات الأمن، بما في ذلك الشرطة، وذلك بسبب التباين في الدوافع والأهداف، وحتى لا تضطر واشنطن لرفع يدها عن إسرائيل، فيتهم بايدن من قبل ترامب بأنه قد تخلى عن الحليف الاستراتيجي، فإن واشنطن تبحث ليل نهار عن المبادرات التي يمكن لها أن تخرجها مما هي فيه من «ورطة»، وهي بالطبع تهمها إسرائيل ولا يهمها نتنياهو، كما يهتم بايدن بإنجاز يبقيه في البيت الأبيض، ومدخل المبادرات الحقيقي هو المحتجزون، لذا وبعد أن صد نتنياهو المبادرة المصرية من قبل، وإزاء تزايد ربط صفقة الرهائن بوقف الحرب، فإن واشنطن تواصل المحاولة مع كل من القاهرة والدوحة، لصياغة خطة من ثلاث مراحل ويجري تنفيذها عبر 90 يوما، متدرجة تنتهي بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة وعدم المس بقادة «حماس»، كذلك إنشاء صندوق دولي لإعمار غزة، وهذا بعد أن حاول الأميركيون إغراء نتنياهو بولوج مسار التطبيع مع السعودية الذي يتضمن خطوات مؤكدة نحو إقامة الدولة الفلسطينية، لكن على ما يبدو فإن واشنطن باتت مقتنعة بأن أي مبادرة لن تنجح بموافقة نتنياهو، ما دامت تتضمن وقف الحرب، لذا فما من مفر من تجاوزه، لفرض حل يتضمن وقف الحرب، وكسر الحصار، والسير على طريق حل الدولتين، بالطبع مع إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، وكل هذا بحاجة إلى إزالة حجر العثرة الكأداء على هذا الطريق المتمثل، باليمين الفاشي وليس بنتنياهو فقط.