حول جدليات «حلّ الدولتين» بعد الحرب

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

بقلم عبد المجيد سويلم

 

 

مفهوم "حلّ الدولتين" ملتبس إلى أبعد حدود الالتباس، وذلك بالنظر إلى تداخله كمفهوم مع صيغٍ قانونية، سياسية وحقوقية، راهنة وسابقة ولاحقة، ما يجعل منه مثاراً للتفسير والتأويل، من قبل كلّ أطراف الصراع التي تقف على جوانب هذا الصراع، وبحيث تمدّ الأطراف مفهوم "حلّ الدولتين"، أو تقلّصه عند حدود "الممكنات" السياسية أو تجعل منه مجرّد "مدخل" لتطوّرات لاحقة قد تدخل في عالم التمنّيات أو التوقّعات ليس أكثر.
إذاً ما معنى مفهوم "حلّ الدولتين" في وضعٍ يوجد من جهة دولة قائمة، ودولة قوية، مقتدرة مقابل عدم وجود مثل هذه الدولة على الطرف الآخر للمعادلة؟
بأيّ معنىً إذاً نقول عنه "حلّ الدولتين"؟
منطقيّاً، وواقعيّاً نحن هنا نتحدّث عن دولة لم تقم بعد، مقابل دولة قامت منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وبقرارٍ صادر عن الأمم المتحدة تحت بند القرار 181.
الدولة التي قامت، قامت على أنقاض شعبنا، وقامت في إطار تعاون استعماري حثيث مع القيادة الصهيونية لقيامها، وأدّت إلى مذابح جماعية، وتطهيرٍ عرقي مؤقّت، وتم إحلال شعب جديد، قادم ومستقدَم للقيام بهذا الإحلال، وتمّ طرد الجزء الأكبر من أهل فلسطين، وتمّ مطاردة هذا الشعب في كلّ بقعةٍ من بقاع الإقليم لمنع قيام الدولة الوطنية للشعب الفلسطيني.
وعلى مدى عقود كاملة جرت مطاردة الهوية الوطنية لشعبنا، واستخدمت استراتيجيات متكاملة للوصاية والإلحاق، وتم تزويد الدولة التي قامت على أنقاضه بالمال والسلاح والدعم الاقتصادي والسياسي، وصولاً إلى بناء السلاح النووي في نفس السنوات الذي كانت الطلائع الفلسطينية تلاحَق ليس فقط على اقتناء مسدّس أو رصاصة، وإنّما كانت الملاحقات والسجون لمجرّد إشهار كونك فلسطينياً فقط.
أي أنّه تم تحضير الواقع الإقليمي لكي يكون حاضنةً لهيمنة مشروع الدولة التي قامت، ولكي يكون نفس هذا الواقع مانعاً لإحياء مجرّد هوية شعب "الدولة" التي لم ترَ النور أبداً.
ولهذا ما زال العقل العربي والإقليمي، تبعاً لمفاهيم العقل الدولي المدبّر، وما زال أصحاب وهواة اللحاق بذلك من الجانب الفلسطيني يلهثون حول هذا المفهوم، مفهوم "حل الدولتين" دون إدراك القاسم المخفي الأعظم وهو [الحقّ].. حقّ الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية.
لم تتحدّث الوثائق الرسمية الفلسطينية عن شيء اسمه "حل الدولتين"، لا لشعبين، ولا لعدّة شعوب، وإنّما لحقّ الشعب في إقامة دولته الوطنية.
ليس بصورةٍ معلّقة في الهواء، وإنّما بالصلة الوثيقة بحقّين آخرين هما: حقّ تقرير المصير، وهو الحقّ القانوني والشرعي الذي تصونه الشرعية الدولية لكلّ شعبٍ تعرّض للاحتلال والاضطهاد، كما حصل وما زال يحصل للشعب الفلسطيني على هيئة مأساوية دامية من الإبادة والتطهير العرقي.
وحقّ العودة، عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شُرَدوا منها في ضوء قيام العصابات الصهيونية بتلك الإبادة والتطهير.
ومن هنا فإن المُشرّع الفلسطيني الذي أدرك في عمق أعماقه أنّ الحقّ في إقامة الدولة الوطنية قد تحوّل إلى حيّز جغرافي نتج وانطوى على [تنازل تاريخي] بأن قَبِلَ بقيام هذه الدولة على الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967، وبالتالي حُدّد الحيّز الجغرافي للدولة على خطوط الرابع من حزيران والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزّة، وكامل القدس الشرقية.
كلّ ما عدا ذلك ليس شرعياً، وليس من حقّ أحدٍ أن يعتبره سياسة وطنية متوافقاً عليها، بما في ذلك ما جاء في أحد قرارات القمم العربية بصدد اللاجئين (حلّ متّفق عليه)، أو بما في ذلك مسألة تبادل الأراضي أو غيرها من عمليات التآكل التي تعرّض لها البرنامج الوطني على مدى كامل مسار التفاوض الفاشل، لثلاثة عقود متعاقبة، أي أنّ الشعب الفلسطيني قد قدّم "التنازل التاريخي" في مجال الحيّز الجغرافي (وهو تنازل كبير على كلّ حال) بالمقارنة مع الحيّز الجغرافي الذي ورد في قرار التقسيم 181، وحيث تغيّرت البيئة الإقليمية والدولية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973، وحيث نضجت الظروف الوطنية الفلسطينية نفسها.. إنّ الشعب الفلسطيني أعاد ربط الحقوق الوطنية مع بعضها البعض في قضيتَي تقرير المصير والعودة.
الآن، وبما أنّ العالم كلّه عاد للحديث عن "حلّ الدولتين" بعد أن وضعت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول هذا "الحلّ" على جدول أعمال هذا العالم، وبعد أن فشل مشروع تجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، وسقط الرهان على تجاوز هذه الحقوق، في ضوء الصمود البطولي لهذا الشعب، وفي ضوء الثمن الباهظ الذي دفعه، وما زال يدفعه لحماية هذه الحقوق، فإنّنا أمام فرصة تاريخية جديدة لم تكن مُشرعة أمام شعبنا كما هي مشرعة في الواقع الجديد.
النقاش والجدل ليس فيما إذا كان 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، سيؤدّي إلى قيام هذه الدولة أو لا.
لأنّ هذا ليس هو المهمّ الآن.
والسبب بسيط، وواضح وضوح الشمس، وهو أنّ الولايات المتحدة ليست مع قيام دولة فلسطينية حقيقية، ويعود حذر هذا السبب إلى أنّ إسرائيل ترفض بالمطلق قيام دولة فلسطينية حقيقية.
كما أنّ "العالم" الحرّ حتى وإن تعاطف جزئياً مع حدود معيّنة من دولة حقيقية، فإنّه ومن موقع تبعيته للإدارة الأميركية التي تتبنّى جوهر الموقف الإسرائيلي ليس بمقدوره مجابهة الموقف الأميركي، كما دلّت كلّ الخبرات التاريخية خلال عقودٍ طويلة.
وحتى البيئة العربية والإقليمية الرسمية فإنّها ليست بوارد أن تتصدّى للمفهوم الأميركي للحلّ، بل هي في الواقع تتبنّاه بالكامل. لكن الشيء الكبير الذي حقّقه 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل هو أنّ العالم يبحث عن حلّ، ويبحث عن مخارج من أزماته التي تولّدت عن هذا اليوم، إن كان على مستوى المخاوف من الحروب الإقليمية الطاحنة، والتي ستكون بمثابة حرب عالمية، أو كان على مستوى تبعات حركة الشارع في هذه البلدان، أو تبعات محكمة العدل الدولية، أو حتى المخاوف من "اليوم التالي" في دولة الاحتلال بعد نهاية هذه الحرب.
هذه فرصة الشعب الفلسطيني لعدم التفاوض مع أحد قبل أن تعترف الأمم المتحدة بدولة فلسطين على الحيّز الجغرافي المنصوص عليه في البرنامج الوطني، على أن يكون التفاوض على عشرات القضايا، ولكن فقط على هذا الأساس، وليس على أيّ أساسٍ آخر، هذا هو بمثابة "شيك" قابل للصرف في الوقت المناسب.
إذا تماسكنا وخضنا هذا الغمار فلن نخسر شيئاً سوى أوهامنا، أو سنحقّق إنجازاً تاريخياً يوازي عملية سياسية أكبر من "وعد بلفور"، وسنكسب بعضنا بعضاً لأنّ "الخلاف" السياسي سيكون قد انتهى في الساحة الوطنية، والصراع بين مكوّنات الشعب على القضايا الأخرى تكون قابلة للحلّ في الإطار الديمقراطي العام. دون ذلك فإنّنا سنعود إلى الوعود والعهود التي خبرناها.
يجب أن
لا يسمح الشعب الفلسطيني بضياع هذه الفرصة، ويجب أن يتصدّى لكلّ من سيحاول منعه من تحقيق هذا الهدف قبل جلسة تفاوضٍ واحدة، مع أيّ طرفٍ يدّعي أنّه يحاول البحث عن حلّ سياسي.