نتنياهو في انتظار ترامب

WptCE.jpg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

ما زال الجمهوريون الأميركيون هم الحزب اليميني المحافظ مقابل الحزب الديمقراطي الذي لا يزال الأكثر ديناميكية، والأكثر استعداداً لتغيير مواقفه ارتباطاً بتغيّر الظروف وبمنطق الحياة المتجدد، وغالباً - خاصة في العقود الأخيرة - ما قدّم الديمقراطيون رؤساء شباناً، حيويين، ومجددين، إن بأفكارهم أو بشخصياتهم، وليس أدلّ على ذلك من بيل كلينتون في العام 1992، والذي هزم بشكل مفاجئ جورج بوش الأب الجمهوري العجوز المخضرم في السياسة، والذي كان رئيساً يسعى لولاية ثانية، كذلك باراك أوباما، الذي كان شاباً أسود، ممتلئاً شباباً وحيوية، لا يكف عن الدعوة للتغيير والتجديد، وكان لونه وشخصه معاً تعبيراً عن التجديد في الحياة الأميركية، بعيداً عن نزعة العنصرية وذلك باختيار رئيس أسود، أو ملون، المهم أنه ليس أبيض من أصول أوروبية، وقد لقي الجمهوري جون ماكين الذي كان أكبر المرشحين سناً، الهزيمة في مواجهة الشاب الديمقراطي، أما الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فكان حين واجه الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر في انتخابات الولاية الثانية العجوز رونالد ريغان، مع أن كارتر كان قد سلب عقول الأميركيين العام 1976، بشبابه ووسامته وخطابه الأخلاقي، وهزم الرئيس جيرالد فورد، لكنه هُزم أمام ريغان.
منذ عهد جون كينيدي الذي شق الطريق واسعاً أمام الرؤساء الشبان من الديمقراطيين في مواجهة عُجّز الجمهوريين، سار الحزبان على طريق المنافسة بين حزب محافظ وآخر مجدد، فيما انعكست القاعدة في الشكل على الأرجح، حين جرى التنافس في الانتخابات السابقة التي جرت العام 2020، بين عجوزَين، الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، والرئيس الأكبر منه سناً الديمقراطي جو بايدن، وظهر بايدن على يمين الحزب الديمقراطي، بينما ظهر ترامب كرجل مغامر يستخف بمجمل النظام الأميركي، خاصة حين خسر المنافسة ولم يقر بها، بل حاول بشكل «بلطجي» أن يمنع انتقال السلطة، بتحريض أنصاره على اقتحام الكابيتول مقر الكونغرس الأميركي وأهم رموز الدولة.
والحقيقة أن محافظة الحزب الجمهوري، مقابل استعداد «الديمقراطي» للتجديد، لا تقتصر على مرشحي الحزبين في الانتخابات الرئاسية، ولا حتى في منافساتهما على مقاعد الكونغرس، خاصة في الغرفة الخاصة بالنواب، حيث تضم عادة قوائم مرشحي «الديمقراطي» العديد من ذوي الأصول المتعددة، والملونة، من كل قارات الدنيا، تعبيراً عن تنوع المجتمع الأميركي، ورغم أن غرفة الشيوخ في المجلس تعتبر أكثر «رزانة»، وهي تقابل مجلس اللوردات البريطاني، إلا أن نواب «الديمقراطي» عادة وفي الغالب أقل تشدداً من نظرائهم الجمهوريين، وفي السنوات الأخيرة، لم يقتصر الحزب الديمقراطي على كونه الحزب الذي يمثل الأقليات، من سود ويهود وآسيويين وحسب، بل صار يضم نواباً عرباً ومسلمين وحتى فلسطينيين.
وبدأنا نسمع أصواتاً أكثر توازناً فيما يخص الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، رغم أن الحزب الجمهوري كان يعتبر حزب القومية الأميركية، فيما كان الحزب الديمقراطي أكثر تعاطفاً مع اليهود خاصة من مواطني الدولة، باعتبارهم أقلية دينية، وكانت أغلبية أصواتهم الانتخابية تذهب للديمقراطيين نواباً ورؤساء، لكن المقارنة بين الحزبين ومع أنها ليست حادة تماماً، فيما يخص العلاقة مع إسرائيل، والموقف من الصراع في الشرق الأوسط، لا تقتصر على نخبة الحزبين السياسية، بل تشمل أيضاً ناخبي وأنصار الحزبين، وقد أظهر استطلاع رأي أجرته مؤخراً «إيكونوميست» ومؤسسة «يوجوف» معاً، وقبل نشر قرار محكمة العدل الدولية، أن ثلث الأميركيين وبالتحديد 35% منهم يعتقدون أن إسرائيل ترتكب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، مقابل 36% يقولون: إنها ليست كذلك. أما ما يخص الحزبين فإن 49% من الديمقراطيين يقولون: إن إسرائيل ترتكب الإبادة الجماعية، مقابل 24% لا يوافقون على ذلك، بينما 18% فقط من الجمهوريين قالوا: إنه توجد إبادة جماعية مقابل 57% قالوا: إنه لا توجد إبادة جماعية، وهذا يظهر أن «الجمهوري» بشكل واضح أكثر تشدداً، فيما «الديمقراطي» يظهر استعداده لتغيير الموقف تجاه إسرائيل.
واللافت أن 49% أي نصف الأميركيين الشباب (18 - 29 سنة) يقولون: إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في فلسطين، فيما 24% فقط لا يوافقون على ذلك، وذلك من مجمل المواطنين الأميركيين، وهذا مؤشر، ورغم أن الاستطلاع يجري في ظل الحرب الإسرائيلية، وفي ظل مشاهد القتل والدمار التي ترى على مدار الساعة، إلا أنه مهم للغاية، خاصة أن الدنيا كلها تعلم جيداً أنه ليس هناك من يقف داعماً إسرائيل وهي تذهب بعيداً في التطرف والعنف سوى الولايات المتحدة، والتي لولاها لرضخت إسرائيل لشروط الإقليم والعالم، في الاكتفاء بالبقاء كدولة عادية، على استعداد للتعايش مع الجوار العربي والمسلم، وما يشترطه هذا من إنهاء احتلالها، خاصة لأرض دولة فلسطين، والقبول بحل الدولتين، والذي جوهره بصرف النظر عن تفاصيله، إقامة دولة فلسطين المستقلة، ذلك أن دولة إسرائيل قائمة فعلاً.
أي أن الرهان على التحول الداخلي الأميركي أمر مهم وضروري للغاية، لكن ذلك كما هو حال التحول الداخلي الإسرائيلي نفسه لا يتم من تلقاء نفسه، بل باستمرار الكفاح الفلسطيني أولاً ضد الغطرسة الإسرائيلية المتمثلة بالإصرار على الاحتفاظ بالاحتلال، وعلى التوصيف كدولة طائفية يهودية، أي دولة فصل عنصري، كذلك في الثقة بأن مستقبل البشرية يسير وإن بشكل بطيء أو لولبي نحو الأفضل، فحتى أميركا مضطرة لأن تخضع لمنطق الشركاء الدوليين، وأن تهبط عن قمة النظام العالمي أحادي القطب، كذلك مع تزايد الإقرار العالمي بأنه يجب تحييد القوة العسكرية فيما يخص الصراعات الدولية والتنافس الدولي على النفوذ، لما يمثله ذلك من فرض إرادة الأقوى عسكرياً، وليس الأجود تجارياً أو الأفضل اقتصادياً، ذلك أن وضع إسرائيل في مكانة الدولة فوق القانون، وفوق جميع دول الشرق الأوسط، لم يكن إلا تعبيراً استعمارياً عن فرض الترتيبات الدولية بالقوة العسكرية.
وما زالت إسرائيل ومنذ قيامها وهي تفرض وجودها بالقوة العسكرية، والغريب في الأمر، أنها لا تعتمد في ذلك على قوتها العسكرية وحدها، بل قوة الغرب الرأسمالي أو الإمبريالي أيام الحرب الباردة، ثم القوة العسكرية والسياسية الأميركية خلال عقود النظام العالمي الأميركي.
وقد كان الداخل الإسرائيلي ضحية هذا الجبروت وتلك الغطرسة، فقد تحولت شيئاً فشيئاً، من دولة تعتمد نظام التعاونيات شبه الاشتراكية، بقيادة «ماباي» حزب عمال إسرائيل، ومن ثم حزب العمل، لمدة أربعة عقود متواصلة، إلى تداول السلطة ما بين يسار ويمين قومي علماني، إلى دولة لا تداول فيها، محكومة من اليمين، ثم من اليمين واليمين المتطرف. بحيث اختفى اليسار أولاً، ثم الحياة المدنية ثانياً، وتفشت ثقافة اللاهوت الديني في المجتمع الإسرائيلي، بل تحول إلى مجتمع منقسم بين العلمانيين والمتدينين، فيما كان المستوطنون بيضة قبّان تذهب بكفة الميزان لصالح التطرف والتشدد، وصولاً إلى مشارف الفاشية الرسمية.
وبعيداً عن الإنشاء اللغوي والفكر الفلسفي المجرد، وجدت حكومة اليمين المتطرف التي تضم عنصريين وفاشيين، بتقدير الغرب والأميركيين، ووصفهم لكل من بن غفير وسموتريتش، وحتى ميري ريغيف ونير بركات، وغيرهم، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي تشن حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني سعياً لتطهير أرض فلسطين عرقياً من أصحابها، شنت حرباً داخلية بالتزامن مع الحرب ضد فلسطين، ضد مؤسسات الدولة المدنية، أولاً ضد القضاء، ثم ضد مؤسسات الشرطة، بإخضاعها لبن غفير، ثم المؤسسات الأمنية بتجاهل تقديراتها فيما يخص الأوضاع الذاهبة لانفجار حتمي في الضفة والقدس وغزة، وها هي تزج بالجيش في حرب بأهداف سياسية مستحيلة التحقق، وكل هذا بعد أن تنصلت من المسؤولية عما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والإصرار على ذلك رغم كل ما جرى قبله وما يجري بعده.
ويطول الحديث عن الاعتبارات الإقليمية وكذلك الدولية، لكن إشارة مختصرة تقول: إن إسرائيل تجاوزت أولاً دول الجوار، حين اعتقدت أن «اتفاقات أبراهام» صارت أهم عندها من اتفاقات وادي عربة وكامب ديفيد، كذلك هي تتجاهل حتى تركيا وإيران، وتظن أنه يمكنها فرض إرادتها على كل دول الشرق الأوسط، بما في ذلك، مصر، السعودية، تركيا، إيران وحتى الجزائر، وصولاً إلى إندونيسيا، وليس فقط على دولة وشعب فلسطين.
ولكل هذا، فإن نتنياهو يسعى لأن يواصل الحرب حتى نهاية العام الحالي 2024، في انتظار وصول ترامب للبيت الأبيض، ليقوما معاً بفرض «صفقة العصر» مجدداً، وتوسيع اتفاقات أبراهام، والزج بأميركا مباشرة في الصراع الإقليمي، بإخراجها من صراعها الكوني مع الصين وروسيا.