إسرائيل كما هي دون مكياج

BGh5Q.jpg
حجم الخط

بقلم طلال عوكل

 

 

هل من لا يزال يشكّ بأنّ إسرائيل تشنّ على الفلسطينيين في كلّ أماكن وجودهم، حرب إبادة شاملة للبشر، والحجر والشجر والهواء؟
لم يختلف سلوك الجيش، والمستوطنين، وأجهزة الأمن والشرطة الإسرائيلية بعد قرارات محكمة العدل الدولية، عمّا كان قبل انعقاد المحكمة بناءً على ملفّ قدّمته دولة جنوب إفريقيا.
ما تفعله دولة الاحتلال خلال الحرب، وحتى الآن لا يخرج عن سياق طويل، كانت مؤشّراته، قد ظهرت منذ اللحظة الأولى لدخول العصابات الصهيونية بدعمٍ مباشر من الاحتلال البريطاني.
منذ البداية، اعتمدت العصابات، ومن بعدها الهيئة التي تشكّل الدولة، سلوك الدولة المارقة، التي لا تعترف بقانون دولي، أو أيّ قيم إنسانية، طالما أنّ المجتمع الدولي لم يوقفها، بل شكّل لها الغطاء وقدّم لها الدعم الكامل.
وهي لا تنتبه إلى تغيّر الزمن وتغيّر المعطيات، وهي لا تزال تعتقد أنّها اليوم قادرة على الإفلات من العقاب ومواصلة نهجها في الإرهاب الاقتلاعي، بحقّ الشعب الفلسطيني.
ثمة فارق كبير وجوهري بين اليوم والأمس، فلا الولايات المتحدة الأميركية، وحلفها «الغربي» الحامي والضامن لإسرائيل، هي بالقوة والقدرة والتأثير الذي كانت عليه من قبل، ولا إسرائيل اليوم هي إسرائيل بالأمس.
ادّعت إسرائيل، ونامت على حرير الوهم بأنّها القوة الأكبر في المنطقة والقوّة التي تملك جيشاً لا يُقهر.
قبل الحرب، امتلأ الفضاء بادّعاءات إسرائيل بأنّها قادرة وجاهزة لخوض الحرب على جبهات متعدّدة، وأنّها قادرة على هزيمة جيوش عربية مجتمعة، وذهبت قيادات الجيش نحو إجراء تغييرات هيكلية على جيشها، بحيث يعتمد تقليل العدد، وتعظيم القدرات التكنولوجية، والاعتماد على كثافة النيران، وقدرات جوّية، متفوّقة، زوّدتها الولايات المتحدة، بآخر ما توصّل له العلم في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
لا يزال الجيش الإسرائيلي يعيش على ذكريات حرب الأيّام الستة، التي تمكّن خلالها من إلحاق هزيمة صعبة، واحتلال كلّ أرض فلسطين التاريخية، وسيناء والجولان.
لم يرتدع قادة الاحتلال بعد الزلزال الذي أصاب إسرائيل وجيشها، خلال حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973، رغم معرفة هؤلاء، بأنّ إسرائيل ما كانت لتستمر  لولا التدخل الأميركي المباشر لصالحها في الحرب.
بعد تلك الحرب، تراجعت لهجة الثقة بالجيش الذي لا يُقهر، ولكن هذه اللهجة عادت لتتّضح من جديد، بعد إبرام «اتفاقية كامب ديفيد»، بعد أن ضمنت إسرائيل، خروج الجيوش العربية من ساحة الصراع.
في هذه الحرب انكشف ظهر الجيش والدولة، أمام المقاومة الفلسطينية، والمتضامنين معها في المنطقة على قلقهم وبالرغم من أهمّيتهم.
يتفاجأ الجيش «الذي لا يُقهر»، حين وجد في مواجهته مقاومة باسلة أعدّت العدّة لمقابلته، وشعباً لا يُقهر، فإذا به يخوض حرباً طويلة لم يكن يتوقعها أو يريدها وهي لا تزال مفتوحة على الوقف المحكوم بفشل كلّ أهداف الحرب التي أرادها بنيامين نتنياهو وحكومته.
الفلسطينيون، ومناصروهم يخوضون حرباً في مواجهة الجيش الإسرائيلي بكلّ قطاعاته، وعدّته وعديده، بينما يخوض الجيش الإسرائيلي والمستوطنون حربهم ضد الشعب الفلسطيني، ووسائل حياته.
ثمة جنون غير مسبوق، في حروب سابقة، حيث يواصل الجيش الذي لا يُقهر حربه، ويُلقي بحممه أميركية الصنع، على المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً، وتجاوز كلّ القيم والقوانين، ثمّ يدّعي أنه يحققّ إنجازات.
لقد سقط الجيش الإسرائيلي أخلاقياً، وسقطت معه، كلّ الروايات المزوّرة، التي لم يعد لكلّ البشر ابتلاعها، وها هي الولايات المتحدة تعبّر عن مخاوفها من أن تكون هي الأخرى تشهد سقوط منظومتها الأخلاقية. الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني لا تقتصر على قطاع غزّة الذي يشكّل مركز الحدث، ذلك أنّ ما يجري على ساحة الضفّة الغربية والقدس ينسف كلّ مزاعم وذرائع الاحتلال، وخطاب الحقّ في الدفاع عن النفس.
منذ بداية الحرب، لم يتوقّف جيش الاحتلال الإسرائيلي عن اقتحام مدن وقرى، وبلدات الضفة، والإمعان في تدمير البنى التحتية، واعتقال الشبّان، وإعدامهم ميدانياً، وتعويق حركة وحياة الناس.
وإلى جانب الجيش وفي حمايته يُصعّد المستوطنون المدجّجون بالسلاح الاعتداء على الناس، ومصادرة وحرق ممتلكاتهم، بينما تواصل حكومة الاحتلال إقامة الحواجز، ومصادرة الأراضي، وتوسيع الاستيطان وعزل المدن الفلسطينية عن بعضها.
نحو أربعمائة شهيد ومئات الجرحى، ونحو 6500 معتقل يُضافون إلى نحو خمسة آلاف أسير فلسطيني، وأعداد أخرى من المعتقلين الذين لا يُعرف مصيرهم من سكّان القطاع، هذه حصيلة الجزء من الحرب على الضفة.
إسرائيل لم تقدم مبرّراً لما تقوم به في الضفة، فإّذا كانت الحرب على غزّة، سببها ما وقع في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل المنصرم، فما هي مبرّرات الحرب في الضفة سوى أنّها حرب إبادة للوجود الفلسطيني برمّته ومحاولة يائسة للإجهاز على القضية الفلسطينية؟
هل لهذا السبب أقدم الرئيس الأميركي جو بايدن على إصدار أمر تنفيذي بحقّ الإرهاب الذي يمارسه المستوطنون في الضفة، أم لأنّ ذلك يساهم في تقويض مزاعم الولايات المتحدة بشأن حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟
لقد هشّمت المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني كلّ غطرسة إسرائيل ومسحت ادّعاءاتها، وروايتها، ووضعتها للمرّة الأولى، منذ بداية الصراع أمام العالم بما هي عليه دون مكياجات، وبعدها بالمحاسبة التاريخية.
يلاحظ المراقبون، الجهود الأميركية والدولية والعربية، لإبرام صفقة عنوانها التهدئة الإنسانية، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بعد أن فشلت كلّ محاولات الإفراج عنهم بالقوّة.
حتى الآن تنتظر إسرائيل وينتظر الوسطاء، ردّ المقاومة الفلسطينية على «اتفاق الإطار» الذي جرى بحثه في فرنسا قبل بضعة أيّام، ما يعني أنّها صاحبة اليد العليا، على خلاف ما تعوّدت عليه إسرائيل.
الفلسطينيون لا يحتاجون إلى هدنة إنسانية، ستنقضي، ثم يعاود جيش الاحتلال هوايته في القتل والتدمير والانتقام، فإذا لم تؤدّ هذه الصفقة إلى وقف الحرب، وخروج قوّاته من غزّة، فإنّ الحرب ستظلّ مفتوحة.
المقاومة تدرك هذه التداعيات، ولديها تجربة الهدنة السابقة، ولذلك فإنّها لن تقع في هذا الفخّ، ولن تلقي بورقة الأسرى الإسرائيليين، وهي ورقة قويّة، دون أن تحصل على ما تريد.
وتدرك المقاومة أنّ عليها أن تتجنّب تحمُّل المسؤولية عن إفشال هذه المساعي، والعمل على إلقاء كرة اللهب في حضن حكومة الاحتلال ومجلس حربها، وتعميق الانقسامات بداخلها، وفضحها أمام جمهورها والعالم.
في هذه الحرب يقدّم الشعب الفلسطيني الكثير من أجل تحرُّره، وتقدّم إسرائيل الكثير من أجل رحيلها عن الأرض المحتلة.