قبل أكثر من مئة سنة وضعت بريطانيا العظمى حجر الأساس السياسي لإنشاء دولة إسرائيل فيما عُرف ب"وعد بلفور".
وبين العام 1917 إلى العام 1948، لم تكتف بريطانيا بالوعد، بل عملت بكل ما لديها من قدرات ودهاء، لتمكين اليهود من إقامة الدولة، ذلك جسّد فعل خيانة للشعب الفلسطيني من جانب الدولة التي كانت منتدبة عليه.
منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا كانت كلفة الوعد البريطاني باهظة جداً، إذ أدخلت منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية لجميع دول وشعوب العالم في دوامة حروب واضطرابات لا تتوقف، وفرضت على الفلسطينيين تشرداً قسرياً من خلال المذابح الجماعية التي ارتكبتها العصابات الصهيونية آنذاك، تحت سمع وبصر بريطانيا وبتسهيلات منها.
ومنذ تأسيس الدولة العبرية وتوسعها الاحتلالي على أربع جغرافيات عربية، فلسطين، مصر، سوريا، لبنان. ودولة الوعد تقدم الدعم والرعاية لوليدتها إسرائيل منكرة على الشعب الذي كان ضحيتها من خلال وعدها المشؤوم أبسط حقوقه الإنسانية والسياسية والوطنية.
سنواتٌ طويلةٌ مرّت على الوعد، وفصول تحقيقه ورعاية مولوده، إلى أن وصلنا هذه الأيام إلى وعدٍ شفوي قدّمه السيد دافيد كاميرون مفاده بأن دولته تدرس إمكانية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهذا أول تصريح يختلف عن إطار المصطلح الدارج "حل الدولتين" الذي بدا كما لو أنه صُمم للامتناع عن الإشارة صراحة إلى الدولة الفلسطينية.
وعد بلفور تحقق، ووعد كاميرون ما يزال مجرد كلام، والأصح قبل أن نتخذ كفلسطينيين وعرب، موقفاً من هذا التصريح فيتعين علينا وضع سلوك دولة الوعد تحت رقابة دقيقة، ليس لما تقول، وإنما لما تفعل، والأمر بالنسبة للفلسطينيين في غاية البساطة إذا ما احتكمنا إلى المنطق وبديهيات السياسة إذ يفترض إذا ما كانت النوايا صادقة وتنطوي على قرار، أن يبدأ الأمر بإعلان مباشر عن اعتراف بريطانيا بالدولة الفلسطينية المستقلة، والذهاب بهذا الاعتراف إلى مجلس الامن لاستصدار قرار بذلك، وهنا يفترض أن يكون الأمر متفقاً عليه، مع الولايات المتحدة لتحييد الفيتو هذه المرة، ومثلما مكّنت دولة الوعد من قيام دولة إسرائيل على الأرض، فيتعين على ذات الدولة أن تلتزم بالعمل الجدي على تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم على الأرض، ورعايتها وتقديم كل ما يستحقه الفلسطينيون من تعويضات على الخسائر التي لحقت بهم منذ العام 1917 إلى أيامنا هذه.
إن الموقف من الدولة الفلسطينية الذي أعلنه السيد كاميرون سيحكم عليه سلباً أم إيجاباً مما سيلحقه من مواقف عملية، تصب في قيام الدولة وليس في كثرة الحديث عنها منذ سنوات طويلة سعدنا بمصطلح حل الدولتين، غير أن تحويل المصطلح إلى مجرد شعار لفظي دون السعي لتنفيذ الجزء الفلسطيني منه، ولّد يقينا بأنه كان مجرد حقن تخدير للفلسطينيين كي يتبعوا سراباً على أنه ماء.
لقد نضج الفلسطينيون على نار مأساتهم التي تزداد اشتعالاً وحرقاً مع كل سنة تمر، لذا فإن التصريحات والوعود لم تعد تقنعهم أو تخدرهم، فالدولة الفلسطينية المنشودة، التي يتنامى اقتناع العالم بأساسيتها لتوفير استقرار في المنطقة، لن تقوم بالوعود والتصريحات ومواقف المناسبات، ولن يكون الحديث عنها مقنعاً إذا لم يقترن بإنهاء الاحتلال عن أرضها وعن شعبها وإنهاء الاستيطان الذي ما وجد أصلا إلا لمنع ولادة الدولة الفلسطينية، فهل يصدق أهل وعد بلفور القديم في وعدهم الجديد؟
هذا ما لا يُجاب عنه بالتصريحات والمناورات ولا بإطلاق بالونات الاختبار، ولا بانتظار إذن من إسرائيل للمضي قدماً فيه، فليصدق الوعد مع الفلسطينيين مثلما صدق مع الإسرائيليين، وكلمة السر في هذا الأمر... إقرار نهائي بدولة فلسطينية مستقلة على أرضها وعاصمتها القدس الشرقية وفتح ملف اللاجئين على حل وفق قواعد القانون والقرارات الدولية.
"وعد كاميرون"..دولة فلسطينية مقابل مجهول سياسي
05 فبراير 2024