سأُجيب عن هذا السؤال فوراً.
الحقيقة أنّ نتنياهو أدرك الآن أنّ سلاحه الوحيد هو حافة الهاوية.
رئيس أركان جيش الاحتلال هيرتسي هليفي، وقبله وزير الحرب يوآف غالانت، وبعدهما بنيامين نتنياهو نفسه اكتشفوا فجأة أنّ معركة خان يونس أبعد ما تكون عن كونها منتهية، وأنّ المعركة تحتاج إلى شهور وشهور، وأنّ حسمها ليس سهلاً.
واكتشفوا فجأة، أيضاً، أنّ الأزمة لا تكمن في شمال قطاع غزة، ولا في وسطه، ليس تحت أو فوق أو على جوانب مستشفى الشفاء، ولا مستشفى ناصر، ولا مراكز الإيواء ولا حتّى مرافق "الأونروا".
الآن اكتشفوا أنّ الأزمة في رفح بعد حوالى 130 يوماً من الحرب التدميرية، وأنّ إسرائيل ستخرج مهزومة في هذه الحرب إذا لم تدخل قوات الاحتلال إلى قلب هذه المدينة، وإذا لم "توقف" تهريب السلاح إلى القطاع عن طريق مدينة رفح، وعن طريق كامل "محور فيلادلفيا" هناك.
يا للهول على هذا الاكتشاف!
يقول كلّ قادة الحرب في دولة الاحتلال إنّه بمجرد "القضاء" على أربع كتائب عسكرية تابعة لحركة حماس في قاطع رفح ستكون إسرائيل قد انتصرت نصراً حاسماً، وبعدها فقط ستتمكّن من فرض شروطها على المقاومة في القطاع، وربما بعد ذلك ستنتهي الحرب بعد أن تحقّق لنفسها حرّية ومرونة الحركة من الناحية الأمنية في كلّ القطاع، بعد أن تنصّب هناك "الأدوات" المناسبة لإدارة القطاع.
باختصار فإنّ قادة الحرب في إسرائيل باتوا يعتبرون معركة رفح مسألة حياة أو موت، عليها يتوقف مصير كلّ هذه الحرب، وعدم القيام بها، أو الفشل فيها سيعني بكلّ بساطة أنّ إسرائيل قد خسرت الحرب كلّها.
إنّها لعبة حافة الهاوية، لا أكثر ولا أقلّ.
إسرائيل تعرف أنّ "اتفاقيات كامب ديفيد" لا تسمح لها بدخول رفح، وتعرف أنّ وجود أكثر من مليون ونصف المليون من المدنيين معناه إعادة تهجيرهم أو تعريضهم لمجازر أكثر وحشية من كلّ المجازر التي ارتكبتها حتى الآن.
وتعرف إسرائيل، أيضاً، أنّ "حسم" معركة كهذه بوجود مئات آلاف المدنيين ليس ممكناً لا خلال أسابيع، ولا خلال شهور، وتعرف كذلك أنّ إعادة التهجير ستضع مصر في موقف حرج وغير مسبوق، وأنّ هناك إمكانية لانفلات الأمور وصولاً إلى نسف الاتفاقيات مع مصر، وأنّ وضع الأمور في هذا المختنق سيعني أنّ مصر ستصبح أمام خيارين لا ثالث لهما: فإمّا الموافقة على إعادة تهجير مئات الآلاف، وربما دفع عشرات، بل ومئات الآلاف منهم إلى الحدود المصرية بالرغم من كلّ الاحتياطات، أو تعلن القاهرة رفضها المطلق للعملية العسكرية الإسرائيلية ووقفها بالقوّة إذا لزم الأمر، وإنهاء العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل.
ويصرّ قادة الحرب في إسرائيل على الظهور بمظهر الواثق من قراره، والقادر على تنفيذه، بصرف النظر عن موقف مصر، وعن موقف الولايات المتحدة الأميركية و"الغرب" كلّه، بل والعالم بأسره.
ماذا يسمّى هذا سوى لعبة حافّة الهاوية؟
أين هو المنطق السياسي، والعسكري لعملية كهذه؟
أليست هناك مغامرة خطيرة في القرار الإسرائيلي؟
ألا يوجد خطر انفلات الأمر مع بدو سيناء؟
ألا توجد إمكانية أن يتصدّى "الغرب" بإيحاء من الولايات المتحدة نفسها لقرارات متهوّرة كهذه؟
ماذا لو نتج عن قرارات كهذه مجازر وحشية مروّعة جديدة في ظلّ قرارات محكمة العدل الدولية؟
ألا تدرك القيادات الإسرائيلية أنّ مصر في حال إن أقدمت إسرائيل على اجتياح رفح ستتحمّل مسؤولية النتائج من الجانب العربي إذا سمحت بها، خصوصاً أنّها تتعارض مع الاتفاقيات الموقّعة بين مصر وإسرائيل؟
فهل أنّ إسرائيل لم تعد مهتمّة بهذه الاتفاقيات، أم أنّها واثقة بأنّ القاهرة لن تصل في مواقفها عند حدود نسف هذه الاتفاقيات؟
وماذا تعني معركة رفح سوى التعريض المباشر لمجاعة جماعية تفتك بمئات آلاف المدنيين، ناهيكم عن المجازر والقتل.
أليس "خروج" مئات آلاف المدنيين معناه رخصة بتدمير رفح عن بكرة أبيها، وإغلاق المعبر، وعودة إسرائيل للتحكّم بكل ما يدخل للقطاع من احتياجات؟
عندما تطرح إسرائيل معركة رفح باعتبارها معركة حياة أو موت، معركة النصر أو الهزيمة، معركة أن تكون إسرائيل أو لا تكون فهذا ليس له سوى تفسير واحد وهو لعبة حافّة الهاوية، كما أشرنا تحديداً في المقالات الأخيرة.
يريد نتنياهو أن يبتزّ فصائل المقاومة للتنازل عن معظم شروطها للهدن وصفقات التبادل، ويريد أن يضغط على مصر، وقطر، وعلى الولايات المتحدة و"الغرب" بأن ينتقلوا جميعاً للضغط على فصائل المقاومة قبل أن تحدث "الكارثة" التي يهدّد بها.
فهو يعرف أنّ مصر باتت في وضع أكثر من حرج مع هذه القرارات، وكذلك الوسطاء، وهو يعرف، أيضاً، أن من شأن الذهاب إلى رفح نسف أيّ إمكانية لأي صفقة من أي نوعٍ كان.
وهو يعرف كذلك أنّ من شأن معركة كهذه أن توسّع الحرب إلى أبعد الحدود وأخطرها، وأنّ توسيع الحرب سيصبح مبرّراً على الجبهة الشمالية، وقد لا يكون "حزب الله" في حالة كهذه مستعداً فقط للدخول في حربٍ كبيرة وشاملة، وإنّما مستعد، أيضاً، لاعتبار "الانتصار" الإسرائيلي فيها ممنوعاً، وهزيمة فصائل المقاومة ممنوعة.
أي أنّ ما يقوله نتنياهو يعطي لـ"حزب الله" مشروعية كبيرة لتوسيع الحرب، وقد يمتدّ الأمر إلى أبعد من جبهة الجنوب اللبناني!
ونحن في الواقع بتنا أمام احتمالين لا ثالث لهما.
فإمّا أنّ القيادة الإسرائيلية القائمة على هذه الحرب قد فهمت أنّها هزمت، وأنّها مستعدة للمغامرة بكلّ شيء، ومن بعدها ليغرق الإقليم كلّه في حروب مدمّرة لا تنتهي، أو أنّ هذه القيادة تراهن على وهن وتردّد العرب، ومخاوف جو بايدن في سنته الانتخابية، وهواجس "الغرب" من امتداد الحرب، لكي يتمّ إنقاذ هذه القيادة أو إبقاؤها في دائرة المنافسة، لأنّ الوضع الداخلي الإسرائيلي عملياً أخرجها منها، ولم يعد أمام هذه القيادة سوى أن تتسوّل وتتوسّل من تحت الطاولة مثل هذا الإنقاذ.