حتى الإدارة الأميركية وفي مقدمتها رئيسها جو بايدن، ضاقت ذرعاً بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبصرف النظر عن دافع بايدن الذي دفعه للقول إن الرد الإسرائيلي، يقصد الحرب، على غزة قد تجاوز الحد، أو السقف، وكان يشير بذلك، إلى ما قدّره هو من وقت للحرب وحدده بأسابيع وليس بسنوات أو أشهر، والدافع على الأغلب هو انتخابي، كما كان دافعه للمشاركة في كابينيت الحرب، كشريك بلا حدود لبنيامين نتنياهو في حرب منفلتة العقال، ألقت على قطاع غزة، من الديناميت، ما يعادل عدة قنابل نووية من قوة تلك التي ألقيت على هيروشيما ونغازاكي، نقول: حتى بايدن ضاق ذرعاً بحرب نتنياهو، التي ما زال يصر على الاستمرار فيها، رغم فشله الأمني أولاً، ورغم ما تلحقه من ضحايا مدنيين فلسطينيين ومن دمار هائل في قطاع غزة ثانياً، ورغم الرفض والإدانة الشعبية العالمية المتواصلة، بما لم يسبق له مثيل من احتجاج عالمي، وكذلك من تظاهرات شعبية إسرائيلية أيضاً ثالثاً.
والحرب الإسرائيلية لم تتجاوز الحد في ارتكابها لجرائم الحرب، وفي كونها نموذجاً فعلياً وماثلاً دون ريب لحرب الإبادة الجماعية، وحسب، ولكنها من الزاوية العسكرية أيضاً تجاوزت الحد، وهي جرت وما زالت تجري بشكلها وطبيعتها في ظل اعتبارات سياسية/انتخابية لكل من نتنياهو وبايدن معاً، وبعد أكثر من أربعة أشهر، من المناورات البرية، كما وصفت إسرائيل نفسها، مراحل حربها، التي بدأت بالقصف الجوي لكل مدن وقرى ومخيمات قطاع غزة، ثم تحولت إلى ما سمته المناورة البرية، وقصدت بذلك الدفع بالقوة البرية لاجتياح مناطق القطاع بادئة أولاً بالشمال، أي بيت حانون - بيت لاهيا - جباليا، ثم بمدينة غزة بتفاصيلها، ثم المحافظة الوسطى، أي دير البلح ومخيماتها، إلى خان يونس وقراها، وبقيت رفح، المحافظة الجنوبية المتصلة بالحدود مع مصر، والمكتظة بأكثر من ثلثي سكان قطاع غزة، وذلك بعد أن أجبرتهم القوات الإسرائيلية على مدار أشهر الحرب على النزوح من كل مناطق القطاع، تسهيلاً «لمناوراتها» البرية التي نفذتها سابقاً في مناطق القطاع المختلفة.
يمكن القول إذاً إن الحرب تقف عند تخوم رفح، في محطتها الأخيرة، هذا، مع العلم أن إسرائيل بحكومتها المتطرفة قد لا تتوقف عند ذلك، بمعنى أن تبقي الحرب مفتوحة إلى مدى غير محدد، إلا في حالة واحدة، وهي أن تعيد احتلال القطاع، كما هو متوقع، وكما سيكون عليه مآل الحرب في حالة بقي زمامها - أي الحرب - بيد إسرائيل، وتأكيد ذلك أمر في منتهى السهولة، فإذا كانت إسرائيل رغم كل هذا الضغط العالمي، ترفض وقف الحرب، فمن سيجبرها على «الانسحاب» في حال أكملت حربها كما تريد، والاحتلال هو حرب مستمرة على أي حال.
يمكن اعتبار أن رفح اليوم هي عقدة منشار الحرب، وأنها تمثل الآن الحد الفاصل بين إرادتين، إرادة التطرف الإسرائيلي ممثلاً بنتنياهو واليمين المتطرف، من جهة وكل العالم من جهة أخرى، والحقيقة أن هذه اللحظة فاصلة، وضاغطة في نفس الوقت، فنتنياهو قال إنه قد دعا الاحتياط للاستعداد لاجتياح رفح، وأكمل معه رئيس أركان الجيش قوله، إن خطة الحرب على رفح جاهزة، منذ أسبوعين، وتنتظر الضوء الأخضر من الحكومة، وقد اعتبر نتنياهو أن توقف الحرب على أبواب رفح، إنما هو هزيمة إسرائيلية، لأنه بذلك يبقي على حماس، وذلك في إشارة إلى الفشل الإسرائيلي حتى اللحظة في إلقاء القبض، أو في قتل قيادة حماس المركزية، وهو وبعد أن أوحى بأنه سيحقق هذا في مستشفى الشفاء في غزة، وفشل، وبعد أن أشاع بأن ذلك سيتحقق في مدينة خان يونس وفشل أيضاً، يقول إن تحقيق هدف الحرب من جهته، متمثلاً بالقضاء على حماس، يعني في حده الأدنى القضاء على قيادتها، حية أو ميتة، وأنها أي تلك القيادة، واصلت التنقل من أمام قواته من غزة إلى خان يونس إلى رفح!
وكما ادعت إسرائيل أنها قد دمرت معظم ألوية حماس حتى خان يونس، وما تبقى لها سوى أن تجتاح رفح لتسحق ما تبقى من قوة للحركة الفلسطينية، فإنها في أحسن الأحوال لن تجد لا السنوار ولا رفاقه في رفح، فمن الطبيعي لمن أفلت كل هذا الوقت، ومع كل تلك المناورات أو مراحل الحرب، التي رافقتها حرب استخباراتية جبارة، شاركت فيها أميركا وبريطانيا، وكل تكنولوجيا العصر، لن تحقق في رفح أي إنجاز فشلت في تحقيقه بغزة وخان يونس، وما يزيد من تأكيد هذا الاحتمال، هو أن معنويات المقاومة عالية جداً بعد 130 يوماً من الصمود، مقابل المعنويات المنخفضة للقوات الإسرائيلية، ثم إذا كان نتنياهو نفسه، حاول إقناع الأميركيين إبان جولة أنتوني بلينكن الأخيرة، بأن الانتصار في متناول يده، وهو يحتاج إلى أشهر وليس سنين لمواصلة الحرب، فيكون الرد عليه، من ذا الذي سيسمح له بالاستمرار بهذه الحرب الإجرامية أشهراً إضافية أخرى؟
ومواصلة الحرب بعد كل هذه الفترة الطويلة، أصعب بكثير من لحظة إطلاقها، وحتى من الاستمرار فيها خلال الأسابيع والأشهر الماضية، فقد انفضّ كل الشركاء من حول نتنياهو، ولم يبقَ سوى أن يرفع بايدن يده عنه فعلياً، في اليمن أو في مجلس الأمن أو حتى في المحكمة الدولية، كذلك يمكن لبيني غانتس أن ينسحب من حكومة الحرب، وحتى يمكن لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية أن تكسر عنق نتنياهو، بوضع الحد له، بعد أن اتضح لكل الدنيا أنه يرتكب جرائم الحرب بدافع شخصي سياسي.
والظروف التي تقف عائقاً أمام مواصلة الحرب عديدة، منها أن المحطة الأخيرة - أي رفح - مكتظة بالنازحين، ولهذا بدأت الدول المعروفة باتزانها، نقصد الدول العربية، تحذر علناً، من هذه الخطوة، ونخص هنا كلاً من قطر والسعودية، حيث تقود الأولى صفقة التبادل، التي بدورها تعتبر المحاولة الأميركية لكبح جموح نتنياهو بعد أن تجاوز حده بالحرب، فيما دخلت الثانية على ذلك الجهد الذي شهد محطته المهمة في باريس، وستواصل في القاهرة، مع تركيا، وذلك بعد أن استضافت السعودية اجتماعاً مهما للغاية، جمع كلاً من قطر والإمارات، والأردن، ومصر وفلسطين إضافة للسعودية، وذلك لإسناد الجهود الرامية لتطويق خطة نتنياهو بسحق غزة وإعادة احتلالها وتهجير سكانها.
كذلك من العوامل المعيقة لمواصلة الحرب، قرب حلول شهر رمضان بعد بضعة أسابيع، أي أقل من شهر، ومن كانوا أغراراً في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أو غيرها يدركون ما يعنيه أن يحل رمضان في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، من جهة، ومن جهة ثانية، في ظل قيادة إيتمار بن غفير للشرطة الإسرائيلية خاصة في القدس، كذلك لا بد من التذكير بأن على إسرائيل أن تقدم تقريراً لمحكمة العدل الدولية، يتضمن ما فعلته من إجراءات تنفي عنها ارتكاب جريمة حرب الإبادة الجماعية، حيث لم ينخفض منسوب قتل الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، وما زالت إسرائيل ترتكب المجازر اليومية وتقتل يومياً ما يزيد على مئة مدني.
وما زال ملف الادعاء ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية يتفاعل، وتعلن الدول تباعاً عن انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وآخر تلك الدول نيكاراغوا، وهذا الباب سيصبح مفتوحاً على مصراعيه قريباً، برفع عشرات إن لم يكن مئات الدعاوى القضائية ضد قادة وجنود الاحتلال، بتهم ارتكاب جرائم حرب، ومن هؤلاء نتنياهو ويوآف غالانت، الذي أعلن قطع الماء والدواء والطعام، عن سكان غزة، من اليوم الأول الذي أطلق فيه الحرب، كذلك هيرتسي هاليفي، إلى الضباط والجنود، الذين تم تصويرهم متلبسين بجرائم الحرب، وهم يطلقون القنابل على المنازل والأبراج، وكأنهم يصورون أفلام الخيال الفضائية، وسيكون وراء تلك القضايا العديد من المؤسسات الدولية من صحافيين وأطباء ومؤسسات إغاثة، وما إلى ذلك.
ومع احتمالات أن تكون دوافع نتنياهو عن إعلانه الاستعداد للحرب على رفح، للضغط من أجل تحسين شروطه في مفاوضات صفقة التبادل في القاهرة، والتي ستستمر أسبوعاً من اليوم، لن يطلق الحرب خلاله على الأغلب، فإن محاولته للتخفيف من ردود الفعل على ذلك الإعلان، بقوله إنه أوعز بإجلاء مئات الآلاف من المقيمين برفح، كانت عذراً أقبح من ذنب، فهل هذا يعني إجلاءهم إلى غزة والشمال، حيث تم تدمير منازلهم، وما زال جيشه يمنع عودتهم أصلاً بقنص كل من يحاول العودة، أم بشحنهم في بواخر، سيحتاج معها مليون ونصف المليون إلى مئات البواخر، ولا أحد يعرف إلى أين، أم إلى سيناء مصر، حيث ستنفجر العلاقة بين الدولتين، بما يضع حداً لكامب ديفيد، هذا إذا لم تقع الحرب العسكرية بين مصر وإسرائيل.