مـوقـعـة رفـح الـوشـيـكـة!

تنزيل (3).jpeg
حجم الخط

بقلم عبد الله السناوي

 

 


توشك الحرب على غزة أن تدخل أخطر معاركها.
إنها «الرهان الأخير» لـبنيامين نتنياهو لتجاوز أزمته المستحكمة بين ضغوطات متعارضة تهدد مستقبل حكومته وبقاءه هو نفسه في السلطة.
اليمين المتطرف يلح على مشروع «التهجير»، قسرياً أو طوعياً، من غزة إلى سيناء، أو إلى أي منطقة أخرى في العالم، وهو لا يمانع فيه، لكنه يتحسب لعواقبه.
هذا هو المعنى المقصود من عبارة «النصر المطلق»، التي أطلقها في سياق اعتراضه على الصفقة المقترحة لتبادل الأسرى والرهائن.
للوهلة الأولى قد تبدو تلك العبارة انفلاتاً دعائياً بالألفاظ عن الحقائق العسكرية الماثلة، حيث لم يتمكن الجيش الإسرائيلي من تحقيق أي من هدفَيه المعلنين، تقويض «حماس» واستعادة الأسرى والرهائن بقوة السلاح.
بما هو وراء الألفاظ الغامضة، فإنه يقصد مشروع «التهجير القسري» ولا شيء آخر.
إنه الهدف الأعلى لحلفائه في اليمين المتطرف، قبل إعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين، أو على حساب حياتهم إن لزم الأمر.
إذا مر مشروع «التهجير» وجرى إخلاء غزة من سكانها الفلسطينيين، فقد كسبت إسرائيل الحرب إستراتيجياً، وإذا انكسر ذلك المشروع، فإنها الهزيمة إستراتيجياً وأخلاقياً.
دول العالم كلها لا توافق على ذلك السيناريو وتحذر من تبعاته، لكن  نتنياهو يمضي فيه حتى لا تنهار حكومته ويخسر منصبه.
اليمين المتطرف يرفض بصورة مطلقة الصفقة المقترحة، وشريكه الرئيس في مجلس الحرب بعد صدمة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بيني غانتس، يتهمه بالمناورة وعدم الجدية ملوحاً بالانسحاب وتركه وحيداً أمام الرأي العام الإسرائيلي. مشكلته مع غانتس أن استطلاعات الرأي العام ترشحه لكسب أي انتخابات مبكرة للكنيست. كلاهما يحتاج إلى الآخر لكنه لا يثق فيه.
غانتس يدرك أن فرصته في خلافة نتنياهو عالية وفق استطلاعات الرأي العام، لكنه لا يريد أن يخاطر بالخروج من التشكيل الحكومي الحالي على ما تدعوه المعارضة.
بدوره، نتنياهو يدرك أنه بحاجة إلى شريك له خبرة عسكرية عريضة ويتمتع في الوقت نفسه بعلاقات طيبة مع الإدارة الأميركية، التي يحتاجها لتوفير الغطاء الإستراتيجي المطلق كما إمدادات السلاح والذخيرة أكثر من أي وقت مضى.
انسحاب غانتس اعتراف بالهزيمة في الحرب على غزة.
بصورة أو بأخرى، فإن وجوده في مجلس الحرب يوازن بصورة ما الوزيرَين المتطرفَين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش اللذين لم يخدما في الجيش.
الانقسام حاد في مجلس الحرب، ونتنياهو يبدو أسيراً لجماعات اليمين المتطرف في مواقفه وخياراته، رغم اعتراضات غانتس يمين الوسط في صهيونيته.
لم يكن تلويح الجيش الإسرائيلي باجتياح أوسع لرفح الفلسطينية كلاماً في الهواء. التخطيط جاهز حسب وزير الدفاع يوآف غالانت، والتدخل البري قد يحدث في آذار حسب ترجيحات متواترة.
ربما يفسر ذلك بعض أسباب الرفض المراوغ لصفقة التبادل المقترحة، إذ إنها تفضي إلى عودة النازحين من شمال غزة إلى بيوتهم أو أطلالها، ما يعني الإجهاض النهائي لمشروع التهجير القسري.
لم يكن ممكناً لـنتنياهو رفض الصفقة مطلقاً، فهو صدام مفتوح مع قطاع كبير من الرأي العام الإسرائيلي وجميع مراكز القرار في الغرب، التي تنظر إلى إطلاق سراح الأسرى والرهائن كأولوية مطلقة. ولا كان ممكناً قبولها كما هي؛ إذ تفضي مباشرة إلى انهيار التحالف الحكومي الذي يقوده.
هكذا فإن المفاوضات لم يغلق بابها انتظاراً لحسابات وضغوطات خلفية.
هنا تتبدى خشية مشروعة من أن تمارس الضغوطات على الطرف الفلسطيني وحده بذريعة تليين مواقف اليمين المتطرف، أو تهدئة مخاوفه.
بأي ترجمة سياسية مباشرة لـ»النصر المطلق»، فإنه يعني سحق المقاومة واستعادة الأسرى والرهائن دون مقابل.
بترجمة واقعية فهذا وهم مطلق بعد حرب استغرقت حتى الآن أكثر من أربعة شهور، لكنه يؤشر على نوع التصرفات والمعارك التي قال هو نفسه: إنها قد تستغرق شهوراً أخرى، لا سنوات!
كان مستلفتاً هنا ما جرى تسريبه أن نتنياهو رفض طلباً لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بلقاء منفرد مع رئيس هيئة الأركان هرتسي هاليفي للاستماع إليه حول تقييم للوضع الأمني والعسكري إذا ما تمّت الصفقة.
لم يكن ذلك الرفض تعبيراً عن استقلال قرار، أو أن إسرائيل «ليست جمهورية موز» كما نسب إليه التسريب، بقدر ما كان تعبيراً عن خشية أن توافق تقديرات رأس المؤسسة العسكرية ضرورات عقد الصفقة المقترحة بلا إبطاء.
رغم الحوافز التي قدمها بلينكن للمضي قدماً في التطبيع مع السعودية، لم يكن نتنياهو بوارد الرضوخ لمقتضياتها، أن تكون هناك دولة فلسطينية بعد مدى زمني محدد.
أكثر السيناريوهات ترجيحاً الآن، اجتياح رفح وارتكاب مجازر أبشع مما جرى حتى الآن بحق نحو مليون فلسطيني نزحوا من مناطق غزة المختلفة إلى تلك المساحة الضيقة قرب الحدود مع مصر هرباً من الموت.
الغارات التي لا تتوقف والأحزمة النارية فوق المكان تمهد للاجتياح.
البيت الأبيض يحذر رسمياً من مجازر بشعة لمدنيين فلسطينيين قيل لهم أن يذهبوا إلى الجنوب لتجنب ويلات الحرب.
لا يمكن قبول أن يحدث ذلك. هكذا قيل على لسان منسق مجلس الأمن القومى الأميركي جون كيربي، دون أن ترادف الإدانات المسبقة أفعال مصدقة تردع آلة الحرب عن المضي في ارتكاب المجازر وحروب الإبادة.
لم يكن ذلك محض إخلاء ذمة مسبقاً من مجزرة رفح، ولا كانت تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه بأن إسرائيل تجاوزت الحد في حرب غزة نوعاً من المراجعة للمواقف والسياسات بقدر ما كانت محاولة لترميم صورة إدارته في أعين أعضاء حزبه، التي تقوضت على خلفية مواقفه اللامتوازنة واللاإنسانية في حرب غزة.
إننا أمام أفعال على الأرض تمهد لإجبار النازحين الفلسطينيين بترهيب التقتيل الجماعي للنزوح لتجاوز الخط الحدودي إلى رفح المصرية داخل سيناء.
أمام ذلك المستوى من الخطر يتعين على مصر أن ترفع صوتها عالياً بالغضب دون تردد أياً كانت كلفة المواقف؛ حتى لا نكون أمام نكبة ثانية للقضية الفلسطينية تضيع معها السيادة المصرية على سيناء.
التنبّه ضروري والغضب لازم.