دأب رئيس «حماس» السابق السيد خالد مشعل في كل لقاء إعلامي معه على التذكير بنموذج الجزائر في التضحية، موضحاً أنها قدمت مليون شهيد في حرب التحرير، وفي آخر تحديث أوضح أنها قدمت ستة ملايين شهيد طوال فترة الاستعمار الفرنسي.. وذلك في سياق تبريره للأعداد المهولة لضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، ولدحض أي انتقاد لحركته على إقدامها على هجوم 7 أكتوبر، الذي استدعى العدوان بهذه الصورة الهمجية والمنفلتة.
وبما أن السيد مشعل يعتمد على النموذج الجزائري، ويريد أن يسقطه على غزة، فهذا يستدعي منا قراءة التجربة الجزائرية كلها، وليس جزءاً منها، طالما أنها أدت إلى نيل الحرية والاستقلال.
رزحت الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي 132 سنة (1830-1962)، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال خاض الجزائريون ثورتهم الشعبية، عبر مراحل متعددة ومتباينة في زخمها الثوري، كانت آخرها مرحلة حرب التحرير (1954-1962).. لكن هذه المرحلة أتت استكمالاً وتواصلاً مع كافة المراحل والموجات السابقة، والتي أهمها المرحلة الأولى، والتي كانت بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري.
ومن المفيد هنا تسليط الضوء على تجربة الأمير عبد القادر، واستخلاص العِبر، بصفته مفجر الثورة، وقائدها الأول، وملهم الأجيال، وأول من أرسى دعائم دولة الجزائر الحديثة.
بعد الاجتياح الفرنسي للجزائر عمت البلاد حالة من الفوضى وأعمال العنف، فبحث الجزائريون عن قائد لهم يخرجهم من هذه المحنة، ويقودهم نحو الخلاص، فاختاروا الشيخ محيي الدين أمير الطريقة الصوفية، لكنه اعتذر لكبر سنه، ورشح لهم نجله «عبد القادر»، وكان حينها في بداية العشرينات من عمره، وقد عاد للتو من رحلة الحج، والتي طاف خلالها بلاد المشرق، واختلط بشيوخ وعلماء دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان.. وعقب مبايعته عام 1832 اتخذ عبد القادر من مدينة المعسكر عاصمة له، وبدأ بتوحيد القبائل، وبتكوين جيش نظامي، وبدأ بمهاجمة الفرنسيين وحقق انتصارات مهمة، أدت إلى إجبار الفرنسيين على الاعتراف بسيادته على غرب ووسط الجزائر.
في تلك الفترة اهتم الأمير بإنشاء المؤسسات المدنية، ومجلس للشورى، وتنظيم أسس الدولة، وإعداد موازنة مالية، مستلهماً نموذج «محمد علي» في بناء الدولة الحديثة.
وفي ذات الوقت استمرت معاركه ضد الفرنسيين، ما أجبرهم على توقيع معاهدتَي سلام معه، الأولى اتفاقية «ديميشال» عام 1834 والثانية اتفاقية «التافنة» عام 1837.
لم يلتزم الفرنسيون بالاتفاقيات وواصلوا عدوانهم، متبعين سياسة الأرض المحروقة في مواجهة مقاومة قوات الأمير عبد القادر، فمارسوا كل الأساليب الوحشية في قتل الأطفال والنساء والشيوخ، كما أحرقوا المدن والقرى المساندة له، ما أدى إلى سقوط مدنه ومراكزه العسكرية، نظراً لتفاوت موازين القوى بين الطرفين.
وبعد نحو 15 سنة من المقاومة، أي في العام 1847، حشدت فرنسا جيشاً ضخماً وحاصرت قوات المقاومة في منطقة «سيدي إبراهيم»، وحينها لم يجد الأمير بداً من الاستسلام للقوات الفرنسية، فوقّع «معاهدة الاستسلام» التي أوقفت القتال، وسميت هذه المعاهدة «لاموريسيير».
هذا سرد مختصر لأهم مرحلة في تاريخ الكفاح الجزائري، والتي يمكن رسم ملامحها، وتحديد أبرز سماتها، على النحو التالي:
شكل الأمير عبد القادر نموذجاً ريادياً للمزج بين المكون الديني والوطني، فتعامل مع القضية الجزائرية في نضاله وخطابه وحراكه السياسي بدون أيديولوجية دينية، ضمن مشروع مركزي وحيد: مقاومة الاحتلال الفرنسي وبناء الجزائر، ودون الالتفات إلى المسائل الأخرى بغض النظر عن مدى أهميتها.
ويمكن القول إن الأمير عبد القادر شأنه شأن عمر المختار (ليبيا) وعبد الكريم الخطابي (المغرب)، وعز الدين القسام والحاج أمين، وعبد القادر الحسيني (فلسطين)، حيث تمكن هؤلاء القادة الوطنيون من الجمع بين المعاني الروحية والقومية في آن معاً، فدمجوا في شخصياتهم بين القيادتين السياسية والدينية، وجعلوا من الخطاب الديني (غير الحزبي أو الأيديولوجي) عنصراً مكملاً وداعماً للخطاب الوطني، دون أن يطغى عليه، ووظفوا العاطفة الدينية للتعبئة الوطنية والنفير العام دون أن يستغلوا الدين لأغراض السلطة والسياسة والتكسب الحزبي. فكانوا في مُعتقَدهم مؤمنين وفي خطابهم ومنهجهم علمانيين براغماتيين. وبسبب حضورهم وكاريزميَّتهم ذات التأثير الطاغي لم تبرز قيادات دينية أخرى، وربما كانت هذه أسباب تأخر ظهور الإخوان المسلمين وتمدد حركات الإسلام السياسي على الساحة العربية إلى ما بعد رحيلهم بعقود.
في الجانب العسكري كان أبرز وأهم ما فعله الأمير عبد القادر، الاهتمام بمسألة الأمن الغذائي، باعتباره أهم مقومات الصمود، فبنى في كل مدينة وفي كل قرية مخازن سرية لتأمين الأغذية والحاجات التموينية.
وفي السياق ذاته، أدرك أهمية هذا الموضوع في جانب الأعداء، فمنع الجزائريين عن أي تعامل تجاري مع القوات الفرنسية، وحظر تزويدهم بالغذاء، مستغلاً الاضطرابات الداخلية التي تفاقمت في فرنسا، وأدت إلى قطع أو ضعف إمداد الجيش الفرنسي في الجزائر بحاجاته الغذائية.
ولكن، ما حصل بعد ذلك أن مخازن الغذاء السرية والتي كانت نقطة قوة الجزائريين تحولت إلى نقطة ضعف، بعد أن استعاد الجيش الفرنسي عافيته، فشن هجماته على القرى والمدن وعثر فيها على مخازن الغذاء.
وبعد اشتداد الحصار، وسقوط أعداد هائلة من الضحايا، وإدراك الأمير أن لا طاقة له بمواصلة المقاومة، أعلن استسلامه، وهذه تبدو لنا الآن مفارقة غريبة، وغير مقبولة.. لكنها في ذهن الأمير كانت خلاف ذلك، لم تنقصه الشجاعة لمواصلة القتال، لكنه تصرف بروح القائد المسؤول، فلجأ للاستسلام حقناً للدماء، ولأنه لم يربط مصيره الشخصي بمصير بلده، وكانت ثقته بشعبه عاليه، بأنهم سيواصلون الكفاح، فرأى إعطاءهم هدنة لالتقاط أنفاسهم، وإعادة تنظيم صفوفهم، خاصة وأن الضغط الفرنسي على المغرب دفعه إلى وقف دعمه للجزائر، وبالتالي أضحى بلا سند ولا عون.
اشترط الأمير تمكينه من المغادرة إلى الإسكندرية، لكن الفرنسيين تراجعوا بعد توقيع المعاهدة واقتادوه إلى السجن، حتى تولى نابليون الثالث الحكم فقرر إطلاق سراحه بعد أن قضى 5 سنوات أسيراً.
استقر الأمير في دمشق حتى وفاته عام 1883، وبعد انتصار الثورة الجزائرية أُعيدَ رفاتُه إلى وطنه، وقد حُفر اسمه في سجل الخالدين العظماء، رمزاً للثورة والحرية والقيادة الحكيمة والتي طغى عليها الجانب الإنساني.
الاحتلال يعتقل مواطنا ونجليه من دير أبو مشعل وشابا من سلواد
03 نوفمبر 2024