نـفـاق وتـضـامـن مـزيّـف

تنزيل (15).jpg
حجم الخط

بقلم عبد الغني سلامة

 

في الأردن الشقيق، حاول صاحب شركة مخابز أن يعبّر عن رأيه بـ»طوفان الأقصى»؛ فانتقد المقاومة وحمّلها مسؤولية الكارثة، فجوبه بردّة فعل عنيفة من قبل الشارع، لدرجة أن أغلبية مواقع التواصل الاجتماعي هاجمته، واعتبرته خارجاً عن الصف الوطني، وطالبت بمقاطعته.. بينما إزاء فضيحة تصدير بعض المزارعين الأردنيين خضراواتهم لإسرائيل، وإزاء فتح المعابر للشاحنات القادمة من الإمارات للعبور إلى إسرائيل، كانت ردة الفعل الشعبية ضعيفة وهزيلة، ولا تعادل عُشر ما حصل مع صاحب المخبز!
هل هذا تناقض، أم تشوّه في الوعي، أم أنَّ الأهم عند الجمهور هو عدم انتقاد المقاومة؟ وهل المسيرات الشعبية الحاشدة والتي تنتظم أسبوعياً في مختلف المدن الأردنية هي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، وللتنديد بجرائم الاحتلال، والضغط من أجل إيقاف العدوان، أم هي للتضامن مع «حماس»؛ بدليل رفع رايات «حماس»، ورايات «الإخوان»، وظهور خجول للعلم الفلسطيني؟!
طبعاً، لا أشكك أبداً بحقيقة تضامن الشعب الأردني، وصدق مشاعره، لكن السؤال موجّه للقائمين على تلك التظاهرات، ومن يقف وراء الحملات الإعلامية على وسائل التواصل، ولمن يوجه الرأي العام.
فمثلاً، وفي سياق متصل، شهدنا انتقادات شديدة ولاذعة ضد موسم الرياض، وكل الأنشطة الفنية والترفيهية التي تنظمها السعودية؛ نظراً للمأساة التي تحدث في غزة، واحتراماً لمشاعر العوائل الثكلى. لكن الغريب، وغير المفهوم حالة الصمت إزاء الأنشطة التي تنظمها قطر، بل وحالة التفاعل الكبير مع بطولة آسيا التي جرت في الدوحة! فهل ازدواجية المعايير هذه لأن القائمين على الحملات الإعلامية حريصون على العلاقات مع قطر؟
بالمثل، حين كان برنامج «الدحيح» مستقلاً هاجمته مواقع إسلامية عديدة، واتهمته بالإلحاد ونشر القيم المادية، وإنكار الدين. ولما صار يبث برنامجه عبر منصة تابعة لقطر توقفت تلك الحملات وصمتت تماماً! على الرغم أن مضامين ومحتوى البرنامج لم تتغير!
في القدس، كلما زار وفد عربي المسجد الأقصى (خاصة إذا كان من الإمارات) تتم مهاجمته وطرده، وملاحقته بتهم التطبيع والخيانة، ولكن حين يزور وفد تركي، رسمي أو شخصي، حتى لو كان عائداً للتوّ من لقاء مع مسؤول إسرائيلي لا تتم مهاجمته، بل ويلقى كل ترحيب! علماً أن تركيا أول دولة مسلمة طبعت علاقاتها مع إسرائيل، وما زالت تحتفظ بعلاقات ممتازة معها!
لنأتِ إلى الموقف الملتبس والأشد تناقضاً إزاء «محور المقاومة»، وأقصد مؤيديه ومناصريه، وهنا كل ممارسات إيران وسورية و»حزب الله» القمعية والدكتاتورية والعنيفة بل والدموية تصبح مبررة ومقبولة، ولا تثير حفيظة أحد! بينما نفس الأصوات تتعالى وتتنبه إزاء أي مخالفة أو قمع من قبل أي دولة أخرى! أليست الحرية والكرامة والإنسانية كلاً لا يتجزأ! أم أن الأخلاق والقيم بحسب الموقف السياسي والأيديولوجي؟
وقد تجلى هذا التناقض أكثر إزاء الصحافي الفلسطيني معتز العزايزة، فعندما كان في غزة وفي قلب الجحيم ومعرضاً للموت كل دقيقة كان بطلاً وشجاعاً، وبمجرد أن قال: «روحي أعز ما أملك»، صار جباناً وأنانياً ومرتداً. وحين اختار قطر للإقامة صار وطنياً، ومقاوماً صلباً، وبمجرد أن التقى بالرئيس الفلسطيني وتصوّر معه عاد ثانية خائناً وسحيجاً!!
حتى في الوسط الثقافي والأدبي نجد أشد التناقضات غرابة، فبعض «المثقفين» هاجموا جائزة دولة فلسطين لأنها مقدمة من «سلطة التنسيق الأمني»، والتي تعيق مشروع تحرير فلسطين، لكنهم رحبوا بجوائز قطر والإمارات، باعتبارهما دول مواجهة ومقاومة! بل إن التناقض الأشد حين يكون في رفض ومهاجمة الإمارات وقبول قطر! أو انتقاد مصر والسكوت عن السعودية!
ومهما بحثت وفكرت لن تجد تفسيراً منطقياً لأسس التّصنيف والتمييز المتبعة، ولن تفهم الفرق بين اللجوء لحضن إيران وحضن الإمارات! ولن تفهم أساس معاداة السلطة الوطنية والترحيب بوطنية قطر ومواقفها الشجاعة! ولن تفهم أسباب مهاجمة مصر والسكوت عن السعودية! ولن تفهم سبب التركيز على صور بطولات المقاومين الفردية، وإهمال وتجنب صور مأساة ومعاناة الغزيين في مخيمات النزوح! لن تفهم كيف يمتدحون الشهيد العاروري ويذمون الجهة التي استضافته وأمّنها على روحه! لن تفهم تركيبة العقل العربي وتصرفاته إلا إذا أدركت أن أسس ومعايير التصنيف قائمة على تعصب أيديولوجي أعمى، وانحياز حزبي، أو طائفي، وهذا التمييز وتلك المعايير منبعها المانحون والممولون ومنظرو الأحزاب، أما سوقه ومجاله فعند العامّة، مستغلين حاجتهم النفسية للتعبير عن غضبهم وإفراغ شحناتهم العاطفية، وإرواء ظمئهم لفعل أي شئ وقول أي شيء بأيّ ثمن وبأيّ طريقة، فيتلقى هؤلاء التوجيهات دون علمهم، ويصبحون مطبلين وبترديد تلقائي دون وعي، محمّلين بازدواجيّة معايير تعهّـر القيم، وتعيد تشكيلها حسب المزاج، وحسب الخطاب السائد «الترند»، وحسب المصلحة الحزبية، مدفوعة بحالة هوس أيديولوجي مقيت.
هذا التضليل الإعلامي والتسويق الأيديولوجي الديماغوجي خلق تشوهاً في الوعي، وحالة انفصال عن الواقع، وقوّض إمكانية تبلور حالة شعبية متقدمة كان من الممكن أن تحدث فرقاً جوهرياً، وخلق بدلاً منها ردّات فعل عاطفية وموسمية على شكل فزعات، ودون أي فعل منظم. وأوجد مجموعات من السحّيجة والمتعصبين، يبرؤون (دون وعي منهم) كل الممولين والمانحين، وهنا ليس شرطاً أن يكون تمويلهم مادياً، فقد يكون سياسياً وأيديولوجياً، بهدف تبرير سياسات الحزب أو الدولة أو الجهة التي ينتمون إليها أو يناصرونها، ليس بالموافقة على كل ما يصدر عنها وحسب، وبل وبشيطنة الطرف الآخر المخالف بالرأي. وهنا لا أهمية للمصلحة العامة، ولا للقضية الوطنية، ولا للمستقبل، ولا للحقيقة ذاتها. المهم أنّ عقيدة وتوجهات هذه الجهة أو تلك متطابقة مع ما نحمل من أفكار مسبقة، أو أن تكون من نفس الطائفة، ومن نفس الحزب، ونفس المحور.  
كل ما تقدم لا يعني مناصرة جهة معينة، ولا الدفاع عن أحد، ولا تبرير أي موقف ولا مهاجمته، ولا يعني مصادرة الحق في التعبير، والحق في مناصرة من تراه على صواب، أو انتقاد من تراه مخطئاً. الفكرة هنا فهم وإدراك حالة التناقض والنفاق والانفصال عن الواقع والتضامن الزائف.. انتقاد ازدواجية المعايير.
قيم الحق والعدالة والحرية والأخلاق وحقوق الإنسان كلٌ لا يتجزأ..
كن إنساناً قبل أن تكون وطنياً أو متديناً.