تُنزل الحرب في غزة كارثة إنسانية بالشعب الفلسطيني الذي سقط منه عشرات الآلاف من الضحايا بين قتيل وجريح، ودمرت منشآته العامة والخاصة إلى حد مروّع، وهجر قسرياً داخل القطاع، ويواجه اليوم مجدداً خطر التهجير القسري والمجاعة والغياب الكامل لسبل الرعاية الصحية والحياة الآمنة. بجانب هذه الكارثة التي تتجاوز في دمويتها ودمارها كوارث الماضي البعيد والقريب التي حاقت بالفلسطينيين والفلسطينيات، وبجانب تداعياتها السياسية الكثيرة على منطقة الشرق الأوسط التي تعود الولايات المتحدة الأميركية إلى التدخل العسكري في بعض جوانبها بغية منع التمدد الإقليمي للحرب واحتواء تهديدات وكلاء إيران، بجانب هذين الأمرين ثمة تأثيرات اقتصادية بالغة الخطورة لما يحدث منذ 7 أكتوبر 2023.
فيما خص إمدادات الطاقة، وبعض بلدان الشرق الأوسط يصدر النفط والغاز الطبيعي وبعضها الآخر يراوح بين الاكتفاء الذاتي وغياب التصدير وبين الاستيراد، فإن الأسعار ارتفعت بشدة ما أن اشتعلت الحرب وأفادت من ثم موازنات البلدان المصدرة للطاقة (دول مجلس التعاون الخليجي) بينما وضعت المزيد من القيود التضخمية والمالية على موازنات البلدان الأخرى التي لم تتعافَ بعد من النتائج السلبية لجائحة «كورونا» والحرب الروسية - الأوكرانية (بقية الدول).
وعلى الرغم من أن أسعار الطاقة اليوم قد عادت إلى مستوياتها السابقة للحرب في غزة على وقع عدم تأثر إنتاج النفط والغاز الطبيعي في الخليج، وعلى خلفية تدفق الإنتاج الأميركي من النفط، والعاملان ساهما في استعادة استقرار الأسعار، إلا أن احتمالية ارتفاعها مرة أخرى لم تتراجع بالكامل إن بسبب خطر التمدد الإقليمي فيما وراء لبنان وسورية والعراق والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر باتجاه بحر العرب والخليج العربي، أو بسبب خطر طول أمد الحرب التي دخلت بالفعل شهرها الخامس.
أما الاقتصاد الفلسطيني وإذا كان يواجه شبح الانهيار الشامل في غزة والضفة الغربية، فإن إسرائيل تعاني اقتصادياً بشدة، ولولا المساعدات الأميركية والأوروبية لكانت أوضاعها أسوأ بكثير. فالاستثمارات الأجنبية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والسياحة، هبطت بين تشرين الأول 2023 وشباط 2024 إلى أدنى مستوياتها مقارنة بالسنوات الماضية. ولا يتوقع، وفقاً لاستطلاع رأي عالمي أجري مؤخراً بين أصحاب شركات التكنولوجيا الناشئة في أميركا الشمالية وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا، سوى 5% من أصحاب الشركات الإسرائيلية أن يتوسعوا في أعمالهم بين اليوم ونهاية 2025، علماً أن المتوسط العالمي لتوقعات التوسع الإيجابية هو 40 بالمائة.
كذلك تراجعت الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الصناعات العسكرية والأمنية، فانسحبت الشركة اليابانية «ايتوشو» من التعاون مع الشركة الإسرائيلية «البيت سيستمز» وقطعت الشركة السويسرية «كينه + ناجل» تعاملاتها مع ذات الشركة الإسرائيلية وهي تتخصص في إنتاج قنابل وذخائر الطائرات. وعلى الرغم من أن معدلات التضخم في إسرائيل لم تتجاوز 3% والصادرات والواردات الزراعية والصناعية وغيرها لم تواجه أزمات نقل أو نقص حادة منذ نشبت الحرب، إلا أن قيمة العملة الإسرائيلية «الشيكل» تدنت، والحركة في الموانئ التجارية الرئيسة هبطت إلى الحد الذي أغلق معه بالكامل ميناء عسقلان وتوقف معه 90% من العمل في ميناء إيلات. فقط ميناء أسدود هو الذي ظل على حاله، وفي ذلك دليل واضح على غياب الاستقرار التجاري.
كما أن السياحة الخارجية (الأميركية الشمالية والأوروبية) فقدت بين 70 و90% من تدفقاتها، ويعانى أصحاب العمل في كل القطاعات التكنولوجية والصناعية والزراعية والخدمية من أزمة نقص العمالة بفعل إغلاق الحدود مع قطاع غزة، ومنع دخول العمالة الغزية إلى إسرائيل، والقيود الكثيرة المفروضة على العمالة القادمة من الضفة الغربية.
في الجوار المباشر لفلسطين وإسرائيل، فقد خفض صندوق النقد الدولي توقعات النمو الاقتصادي الخاصة بمصر والأردن ولبنان بفعل تداعيات الحرب في غزة.
في مصر، وبينما لم تتأثر تدفقات السياحة الخارجية إلى البلاد لتسجل أعلى معدلاتها منذ 2010 بقدوم ما يقرب من 15 مليون سائح وسائحة في 2023، إلا أن التمدد الإقليمي للحرب باتجاه جنوب البحر الأحمر رتّب تراجع الإيرادات المصرية من قناة السويس بنسبة تدور حول 40%.
أما في الأردن ولبنان، فقد انهارت التدفقات السياحية ومعها غاب مؤقتاً مصدر أساسي للعملة الصعبة في البلدين (على سبيل المثال، تراجعت نسبة الإشغال الفندقي في الأردن بنسبة تتراوح بين 50 و75% بين تشرين الأول 2023 وشباط 2024).
وفي الجوار الإقليمي الواسع لفلسطين وإسرائيل، أدت هجمات الحوثيين على السفن التجارية، وناقلات النفط والغاز الطبيعي والبضائع العملاقة التي تعبر مضيق باب المندب باتجاه قناة السويس، إلى تداعيات خطيرة.
في الأحوال الاعتيادية، تمر عبر البحر الأحمر نسبة من التجارة العالمية تصل إلى 12%، وتسير به ناقلات النفط والغاز الطبيعي من الخليج إلى أوروبا وناقلات الصادرات الصينية واليابانية والهندية والآسيوية إلى الأسواق الأوروبية والأميركية الشمالية. وعلى خط سير السفن والناقلات، تزدهر الأعمال في العديد من الموانئ على امتداد شاطئَي البحر شرقاً وغرباً، وهي في عددها الأكبر موانئ عربية في اليمن والسعودية والأردن والصومال والسودان ومصر.
اليوم، وبفعل هجمات الحوثيين والتصعيد العسكري بينهم وبين التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، هوت الحركة الملاحية في البحر الأحمر إلى ما دون 60% من معدلاتها قبل نشوب الحرب.
ليس هذا فقط، بل ارتفعت كلفة المرور في البحر الأحمر على الدول والشركات بعد أن اتجهت كبريات تحالفات التأمين البحري إلى مضاعفة مقابل خدماتها أضعافاً مضاعفة (7 أضعاف على ناقلات النفط والغاز والصادرات الصناعية) وبعد أن أعلنت كبريات شركات الشحن البحري كـ(ميرسك، وهاباج لويد، وإم إس سي الغربية، وكوسكو الصينية) الإيقاف المؤقت لأنشطتها الملاحية عبر البحر الأحمر واستخدام طريق رأس الرجاء الصالح الأطول بكثير. وأسفر كل ذلك، وفقاً لبيانات منظمات اقتصادية وتجارية دولية، عن ارتفاع أسعار بعض الصادرات الصناعية الصينية واليابانية والهندية والآسيوية المتجهة إلى الأسواق الأوروبية والأميركية الشمالية بنسب تتراوح حول 2%، وعن تأخر وصول منتجات أخرى إلى ذات الأسواق كالسيارات الكهربائية الصينية التي يبلغ حجم مبيعاتها في أوروبا والولايات المتحدة وكندا مليارات الدولارات (تسهم صناعة السيارات بما يقرب من 100 مليار دولار في الاقتصاد الصيني).
لم تتطور بعد ارتفاعات أسعار الصادرات الآسيوية وتأخر وصولها إلى كبريات الأسواق الغربية إلى ما يشبه الأزمة الكبرى لخطوط الإمداد الصناعي التي شهدها العالم في سنة جائحة «كورونا» الأولى، غير أن الخطر يظل قائماً وضاغطاً على دول كالصين واليابان والهند التي تتأثر تجارتها بما يحدث في البحر الأحمر. ولعل ذلك هو أحد دوافع الانتقادات الحادة التي وجهتها وزارة الخارجية الصينية للولايات المتحدة بعد استخدامها لحق النقض (الفيتو) في مجلس أمن الأمم المتحدة لإسقاط المشروع الجزائري لوقف فوري لإطلاق النار في غزة، حيث وصفت بكين واشنطن بالمسؤولة عن القتل والدماء والدمار في القطاع. فالصين، التي تدرك جيداً أن هجمات الحوثيين ستتوقف وتداعياتها الاقتصادية والتجارية السلبية ستتراجع ما أن تتوقف آلة القتل الإسرائيلية في فلسطين، تريد أن تصل إلى هذه النتيجة سريعاً بعد أن طالتها تأثيرات الحرب.