ما حصل في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل يرقى إلى مستوى الخيال العلمي. حركة مقاومة، تعيش في ظلّ حصار مشدّد منذ أعوام كثيرة، وفي بقعةٍ جغرافية محدودة، لو أنّ كلّ "مافيات" الدنيا تعاونت معها، لنقل ما تستطيع من أسلحة قامت ونجحت فيما لا تستطيع القيام به دولة ذات إمكانيات كبيرة.
طويلة كانت فترة الإعداد في حفر الأنفاق، وتجهيزها، وتوفير الأسلحة والذخائر، والمواد الغذائية والطبية، والمحروقات، تخلّلتها عمليات تضليل ومناورات، فشلت في اكتشافها الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية.
غزّة عبارة عن مسطّح، لا غابات فيها، ولا جبال أو وديان، تحوم فوقها كلّ الوقت طائرات الاستطلاع الحربية الإسرائيلية، بالإضافة إلى أبراج مراقبة متقدّمة، ومجموعات من المتعاملين معها، لكن فيها إرادة شعب مقاوم، من نوع مختلف.
الخيال العلمي لا يتوقّف عندما وقع في ذلك اليوم، الذي هزّ إسرائيل، وأركان حلفائها الدوليين، وإنّما يمتدّ إلى ما يقرب من خمسة أشهر لا تزال مفتوحة على المزيد من الوقت والمقاومة العنيدة.
ردّ إسرائيلي ودولي، هو الآخر، يرقى إلى مستوى الخيال العلمي من حيث طبيعة ونوع وشمولية الردّ، حيث حشدت إسرائيل كلّ جيشها والاحتياط مدعومة بمخازن أميركية مفتوحة من الذخائر والأسلحة الفتّاكة.
لا يمكن لأحد أن يتخيّل مثل هذا السيناريو الذي يقع في قطاع غزّة.
لقد أفرغت إسرائيل مدعومة بقوّة من حلفائها الدوليين وفي مقدّمتهم الدولة الأقوى على المستوى الدولي حتى الآن، أفرغت كلّ ما في جوفها من حقد وكراهية وانتقام ضدّ البشر، والقيم البشرية.
دمار شامل، لم يُبقِ بيتاً في غزّة، صالحاً للسكن، ولا شارعاً، أو بنى تحتية، أو مستشفى أو بئر ماء، أو دواء أو غذاء، أو كهرباء أو وقود، إلّا وتعرّض للتدمير الممنهج.
إسرائيل ترتكب باعتراف عديد الدول والخبراء، والمؤسّسات الحقوقية والدولية، جريمة إبادة جماعية تستخدم فيها كلّ أنواع أدوات القتل، والتجويع.
قالها إيهود أولمرت، رئيس حكومة إسرائيلية سابقة، إنّ بنيامين نتنياهو يريد ترحيل سكّان الضفة الغربية، ومصادرة حقوق الفلسطينيين في المسجد الأقصى.
الأمم المتحدة، وأمينها العام أنطونيو غوتيريس، ومحكمة العدل الدولية وخبراء الأمم المتحدة الذين طالبوا بوقفٍ فوري لتصدير الأسلحة لإسرائيل، وكلّ من ينتقد إسرائيل وحربها البشعة يتعرّض للإهانة والهجوم من قبل وزراء حكومة نتنياهو ومنه شخصياً.
لا يستطيع أحد في هذا العالم، أن يفرض على إسرائيل ما لا ترغب في قبوله، هكذا يتحدّث نتنياهو ووزراؤه.
في خطّته لـ"ما بعد الحرب" التي قدّمها نتنياهو في الظلام على حدّ تعبير أحد الكتّاب الإسرائيليين، لا يرى للفلسطينيين حقوقاً أو دولة، ولا يرى لهم أو لسلطتهم أيّ دورٍ في إدارة غزّة، ولا حتى لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، وهو يصرّ على نزع سلاح غزّة، وتمكين إسرائيل من السيطرة الأمنية المطلقة على كلّ أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر.
يتصرّف نتنياهو وكأنه لا يزال يملك تلك اليد الطولى التي تستطيع الوصول إلى أبعد نقطة في هذا العالم، ويتجاهل الفشل المريع الذي تواجهه إسرائيل وجيشها الذي كان لا يُقهر، وإذ به يُقهر على أيدي الفلسطينيين أنفسهم في ظلّ ميزان قوى مختلّ بقوّة لصالح إسرائيل.
نتنياهو لا يزال، رغم فشل جيشه في اقتلاع المقاومة في شمال قطاع غزّة، ومدينتي غزّة وخان يونس، رغم كلّ ما قام به، جيشه من تدمير وقتل، يواصل التهديد باجتياح مدينة رفح رغم تحذيرات المجتمع الدولي بما في ذلك حلفاؤه الدوليون بل شركاؤه في الحرب على القطاع.
يخادع مجتمعه حين يقول إنّ مواصلة الخطط العملياتية في رفح ومواصلة الضغط العسكري، هي الأكثر فعالية في المفاوضات الجارية مع "حماس" وعَبر وسطاء من أجل التوصّل إلى صفقة تبادل.
كلّ "مجلس الحرب" من رئيس الأركان هيرتسي هليفي، إلى وزير الحرب يوآف غالانت، إلى بيني غانتس، كلّهم يكرّرون خطاب نتنياهو، ولكن ليس من العسير أن يفهم المرء، أنّ الهدف هو التأثير على المفاوضات عَبر استخدام لغة التهديد.
إسرائيل تختنق داخلياً وعلى المستوى الدولي، وفي الميدان، أيضاً، ما يدفع نتنياهو للبحث عن صفقة تبادل، لا يبدو من خلالها أنّ إسرائيل خضعت وقبلت بشروط المقاومة.
يبدو أنّ نتنياهو مضطرّ للإذعان تحت ضغط الداخل والخارج، لإتمام صفقة تبادل محدودة، وليس صفقةً شاملة، حيث ستظلّ الأبواب مشرعة أمام إمكانية مواصلة الحرب بطريقةٍ أو أخرى.
لذلك يسوّق "مجلس الحرب"، رواية تتحدّث عن تقدّم في المفاوضات تنفيها مصادر المقاومة، حتى يدّعي لاحقاً، أنّ تكتيكاته التفاوضية وضغوطه العسكرية، أثمرت في تخفيف مطالب المقاومة، وبالتالي رسم مشهداً انتصارياً كاذباً يصدّره لجبهته الداخلية، أو أن يُحيل الفشل على المقاومة.
وسط هذه الأجواء المشحونة إقليمياً ودولياً، والتي تحاصر إسرائيل من كلّ جانب تبدو الثغرة الأكبر والأخطر في سلوك بعض الدول العربية التي تعلن شيئاً وتعمل عكسه.
لقد كثر الحديث عن أنّ بعض الدول العربية والإسلامية تقوم بتزويد إسرائيل بما تحتاجه من مواد غذائية وغيرها، بينما يُحرم الفلسطيني منها.
لم يصدر أيّ نفيٍ من بعض دول الخليج العربي، التي تسيّر خطّاً برّياً لنقل البضائع لدولة الاحتلال لتجاوز الحصار البحري الذي يفرضه الحوثيون في اليمن وآخرون ينقلون البضائع عَبر البحر الأبيض المتوسّط.
هذه من مهازل التاريخ، وأيضاً تنتمي إلى عالم الخيال العلمي، أن يدعم بعض العرب والمسلمين من يرتكبون مجازر إبادة جماعية بحق الشعب العربي الفلسطيني، هذه والله من عجائب الزمن.