هواجس العرب في اليوم التالي

image_processing20240201-2291091-65ed01.webp
حجم الخط

بقلم فهمي هويدي

تستوقفنا لا ريبَ وفرة الكلام عن غزة بعد الحرب، وندرته فيما يتعلق بالعالم العربي. وتلك الوفرة استصحبت أحاديث عن متغيرات داخل إسرائيل ذاتها، فضلًا عن أنحاء أخرى من العالم، في حين أنه ظل باب الاجتهاد شبه مغلق فيما يخصّ عالمنا المحيط.

ولا أستبعد أن يكون ذلك راجعًا إلى محدودية سقف الحوار في بلادنا لأسباب مفهومة. أستثني من ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من المنابر الحديثة التي أتاحت حرية أوسع في التعبير.

سنحتاج إلى «تحرير» الوضع قبل الدخول في التفاصيل، وأقصد بذلك محاولة التدقيق في المشهد لكي نحدد أصول الموضوع وجذوره.

ذلك أن الصراع الحاصل ليس بين إسرائيل وحماس أو يحيى السنوار، كما يحاول البعض تصويره، وقد يصح فيه القول بأنه بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، إلا أن ذلك يصور جانبًا من المشهد، وليس جوهر الحقيقة.

ذلك أن هرولة أغلب الزعماء الغربيين، وفي مقدمتهم الرئيس الأميركي إلى الوقوف إلى جانب إسرائيل منذ اليوم الأول وإصرار واشنطن على استخدام الفيتو لمنع مجلس الأمن، من إصدار قرار بوقف إطلاق النار (أربع مرات)، مع إغراق إسرائيل بالدعم العسكري والسياسي لاستمرار القتل والتدمير والإبادة، ذلك كله يسلط الضوء قويًا على الحقيقة، وهو ما يسوّغ لنا أن نقول، إن النظام الغربي بمؤسساته ومبادئه وقيمه السياسية والأخلاقية خاض حربًا عالمية شرسة ضد الفلسطينيين والعرب المسلمين منهم، والمسيحيين، وكانت إسرائيل وكيلة عنه في ذلك.

أتحدث هنا عن «النظام الغربي» وليس كل الغربيين – أخذًا في الاعتبار عشرات الآلاف الذين يتظاهرون بانتظام في العديد من المدن الغربية مطالبين بوقف إطلاق النار.

وما كان لهؤلاء أن يخرجوا إلى الشوارع إلا لأن ثورة الاتصال أتاحت لهم أن يتابعوا بأنفسهم حرب الإبادة التي تبث تلفزيونيًا لأول مرة في التاريخ، كاشفة الوجه الحقيقي ليس فقط للاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 75 عامًا، ولكن أيضًا الوجه الحقيقي لحضارة الرجل الأبيض الذي يستحضرنا وصف الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي له بـ “الشر الأبيض”.

**

عندي كلام عن الشقّ المسكوت عنه من المشهد، الذي أقصد به العالم العربي بعد غزة. ورغم أن القتال لا يزال مستمرًا ونتائجه لم تتبلور بعد، إلا أن العمق التاريخي للحدث المدوي الذي تتوالى أحداثه منذ خمسة أشهر تقريبًا يوفر لنا إطارًا لمناقشة الموضوع من جوانب عدة.

الأصداء نراها خارج العالم العربي. فثمة حديث عن تطلعات إسرائيل وتوسعاتها الاستيطانية في غزة، وتمددها خارج حدودها لتكون جسرًا بين آسيا وأوروبا.

وثمّة كلام آخر حول حظوظ الرئيس الأميركي في انتخابات تجديد رئاسته، كما أن المناقشة المفتوحة حول النظام الدولي ومؤسساته، ونصيب دول الجنوب التي انتعشت في أميركا اللاتينية وأفريقيا، والأخيرة تعالت أسهمها بعد مبادرة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية باتهام إسرائيل بالإبادة، متحدية بذلك الولايات المتحدة وإسرائيل.

وتعالى صوت ناميبيا التي جددت مطالبتها لألمانيا بتعويضها الواجب عن جرائم الإبادة التي ارتكبتها بحقها في بدايات القرن العشرين، وتردّدت أصوات في أستراليا التي جدّد سكانها الأصليون (الأبورجيون) المطالبة بحقوقهم من المهاجرين الذين وفدوا إلى بلادهم في زمن الاستعمار البريطاني.

رغم أهمية وتنوع هذه الأصداء فإنني أزعم أن غيري من الخبراء والباحثين لم يتوقفوا عن مناقشتها، وهم مستمرون في ذلك، في حين أن العالم العربي ظل قابعًا خارج الصورة رغم أنها كامنة في قلبها، من ثم اعتبر أن مساهمتي على تواضعها يمكن أن تكون دعوة لتحريك المياه الراكدة وتنبيهنا إلى ما نحن مقدمون عليه من تفاعلات ومتغيرات.

**

فيما يخصّ مستقبل العالم العربي هناك معلوم ومجهول. أبرز المعلوم يتمثل في تواتر أحاديث المسؤولين حول حلّ الدولتين، وهو الوهْم الذي تستلهم جذوره من قرار تقسيم فلسطين مع اليهود في 1947 حين لم تكن أعدادهم آنذاك تتجاوز نسبة 6% من السكان.

وهؤلاء خُصصوا بـ 58% من الأرض، أما الأغلبية الفلسطينية التي تملك الأرض وتعيش فيها منذ مئات السنين، أُعطيت 42% منها – وهو القرار الذي لم ينفذ على أرض الواقع. ثم أعيد التلويح ببعضه في اتفاق أسلو 1993، وظل ذلك دأب إسرائيل في كل المفاوضات، إذ تستخدم كلمات المراوغة، من خلالها تأخذ ولا تعطي، بينما تستمر في الاستيلاء على الأرض، وتمكين المستوطنين بتأييد وتمويل من واشنطن طول الوقت.

أما المجهول فهو خيارات إدارة قطاع غزة إلى جانب مخطط تحدثت عنه صحيفة «واشنطن بوست» يخدم التوسع والتمكين الإسرائيليين من خلال الاختراق والتطبيع مع المناطق الرخوة في العالم في إطار أطلق عليه «الشرق الأوسط الجديد». إضافة إلى تغيير جغرافية القطاع تفعيلًا لمخططات جديدة جارٍ تنفيذها.

الملاحظ في هذا الصدد أن النظام العربي ظل ساكنًا ومتفرجًا سواء في ذلك القلة التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل، أو تلك التي لم تنخرط علنًا في التطبيع، وفيما بدا فإن الأغلبية اتبعت سياسة النأي بالنفس إذا استخدمنا المصطلح الشائع في لبنان، واكتفت بالبيانات والخطب الإعلامية التي لم تتجاوز الشجب والاستنكار.

هذا السكون كان بمثابة النصف الفارغ من الكوب إذا جاز التعبير، لكن الشعوب القلقة والساخطة التي قمعت في البداية، ظهرت بقوّة في النصف الثاني منه، صحيح أنه لم يسمع لها صوت، إلا أنّ 82% من الجماهير ظلت تتابع أحداث غزة على شاشات التلفزيون ليل نهار، كما دلت على ذلك استطلاعات الرأي العام العربي، كانت أصوات الجماهير إما محبوسة أو محجوبة، في حين ظل صوت النأي بالنفس وحده الذي يجلجل طول الوقت.

وبدا أن إحدى النتائج المهمة التي ترتبت على توالي زلزال 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أن الفجوة اتسعت كثيرًا بين الأنظمة والشعوب التي استهولت ما يجري من فظائع، ومن ثم عجزت عن القيام بواجبها، الأمر الذي رفع من مؤشرات السخط والغضب اللذين انصبّا في البداية على الحكومات الغربية التي اصطفت إلى جانب قتل الفلسطينيين وتدمير حياتهم وتهجيرهم، وتلك تربة خطرة تستدعي أسئلة كثيرة حول إفرازاتها المتوقعة في العالم العربي.

**

إذا كنا قد تابعنا ما جرى في غزة ساعة بساعة فإن تداعيات المستقبل تظل في علم الغيب، ولست أشك في أن إسرائيل وحلفاءها من أبالسة الإنس أعدوا عدتهم للتعامل معها.

ويذكرنا ذلك بما جرى لثورات الربيع العربي في 2011 الذي فاجأ الجميع، ورد الروح إلى القوى الوطنية العربية قبل أن يتم إجهاضه بتدابير ظهرت نتائجها وإن لم تتكشف لنا خلفياتها إلى الآن.
ولا تزال أبواق الثورة المضادة تصب اللعنات على ما جرى آنذاك، ولا تذكر بالخير تلك النقطة المضيئة في التاريخ العربي المعاصر.
ولإنعاش الذاكرة فإننا إذا حاولنا متابعة الحدثين -الربيع والطوفان- نجد أن ثمة تماثلًا في بعض الأوجه وتباينًا في أوجه أخرى أوجزه فيما يلي:

الحدثان كان لكل منهما دويه في العالم بأسره، كما أنهما خرجا من رحم الغضب والمعاناة اللذين اختلفا في الطبيعة والدرجة، إلا أنّ الاتفاق بينهما ظل تعلقًا بأشواق العدل والحرية.
وإذا كان الظلم مخيمًا في الحالتين إلا أنه في الحالة العربية بدا صادرًا عن أبناء جلدتنا، وكان مصدره في الحالة الثانية غرباء وافدين اغتصبوا الأرض وهجّروا أهلها، والمفاجأة كانت سمة مشتركة لم تخطر على البال، إلا أنها في الحالة الأولى جاءت جماهيرية عفوية وبلا تدبير، في حين كانت في الحالة الثانية ثمرة تدبير محكم استغرق سنوات.
ولهذا السبب فإن الربيع العربي لم يكن له رأس يقوده ويرشده، بينما الانتفاضة الفلسطينية قادتها المقاومة التي كانت حركة حماس على رأسها.
وكما احتشدت قوى الثورة المضادة في الخفاء لإجهاض الثورات العربية، ونجحت في ذلك، فإن الأنظمة الغربية بقيادة الولايات المتحدة قامت بنفس الدور، حين سارعت في العلن إلى مساندة إسرائيل وتمكينها من قمع الانتفاضة الفلسطينية.
ولا تزال الأسئلة مثارة حول دور عناصر الثورة المضادة الذين تآمروا على الربيع العربي، وحقيقة موقفهم الملتبس إزاء طوفان الأقصى، خصوصًا أن بعضهم من أهل التطبيع الذين انتموا إلى البدعة الأبراهامية المريبة.

**

لا يخطئ من يخلص إلى أنني لم أجب عن سؤال مستقبل العرب بعد انتهاء الحرب، وهو ما أعترف به لسبب جوهري، هو أنه ليست لديّ إجابة، وما سعيت إليه لا يتجاوز مجرد طرح السؤال المسكوت عنه لفتح باب المناقشة حوله، في محيطنا العربي الذي هو ساحة الصراع وموضوعه في نفس الوقت.
ولا مفرَّ من الاعتراف بأنني لست الوحيد الذي تحيّره الإجابة عن أسئلة المستقبل واحتمالاته في العالم العربي، ليس فقط لأنه موضوع صعب وملغوم، ولكن أيضًا لأننا لا نعرف الخرائط الحقيقية لذلك العالم الذي يكتنفه الغموض. فنحن لا نعرف كيف تصنع السياسة فيه، كما أنه ليست لدينا، في مصر على الأقل، قياسات معلنة للرأي العام. وما لدينا إما أن يكون غير معلن في الداخل، أو قياسات معلنة في الخارج.

لكننا مع ذلك نعرف أمرين: أولهما أن النظام العربي ظل غائبًا طول فترة الحرب المستمرة، وثانيهما أن أداء الدول العربية ظل في حدوده الدنيا حتى صار مخجلًا إذا ما قُورن ببعض الدول الأفريقية أو أميركا اللاتينية، وهي التي لجأت إلى الأفعال في مواجهة إسرائيل، بينما جهد الدول العربية لم يتجاوز التصريحات التلفزيونية والأقوال.

إنني أقدر الضرورات وأفهم الحسابات السياسية التي لم تمنع دولًا أخرى من القيام بواجبها في رفض العدوان من خلال الأساليب الدبلوماسية المعهودة، لكن الخِذلان العربي لم يكن متوقعًا.

بكلام آخر؛ فإن المشاعر التي تعمّ العالم العربي قد تترجم إلى ممارسات غير متوقعة، ما لم يُبذل جهد حقيقي يمتصّ غضب الجماهير التي يراد لها أن تقف متفرجة على مشهد الإبادة. إن مشهد الإبادة والتجويع المأساوي بذات الأساليب المتبعة منذ أوسلو، يشكّل صدمة تبعث على الإحباط باعتباره لا يعبّر عن الواقع الجديد بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ناهيك عن أنه لا يوفر الحد الأدنى من الحفاظ على الحق والكرامة والعِرض.