خضعت الإدارة الأميركية للإدارة الإسرائيلية، «ويمكن أن يكون العكس هو الصحيح» بأن قبلت بإنهاء دور معبر رفح، وإبقاء المعابر الإسرائيلية تحت التحكُّم التام لقيادة الحرب الإسرائيلية، وذلك لأنّ التجويع هو ما تبقّى لهذه القيادة بهدف فرض شروطها على أي صفقة قادمة إذا استطاعت.
ومن أجل إعطاء الفرصة الكاملة لإسرائيل في اللعب والتلاعب بورقة التجويع طرحت الإدارة الأميركية مشروع إقامة «الميناء العائم المؤقّت»، لكي تبدو وكأنّها حاولت أن تحلّ أزمة التجويع بإسقاط المساعدات جوّاً، وهي مساعدات محدودة للغاية ولا يمكنها أن تسدّ رمق أهل قطاع غزّة، ولا تنفع حتى للتنقيط في حلوق عشرات آلاف الجياع، والذين يتحوّلون إلى مئات الآلاف بسرعة مذهلة، ولجأت إلى مشروع «الميناء المؤقّت»، في خطوة تبدو وكأنّها محاولة أميركية «جادّة» للالتفاف على الرفض الإسرائيلي لإدخال المساعدات عن طريق البحر!
بل ووصل الأمر من استخفاف الولايات المتحدة وإسرائيل بعقول العرب، وعقول العالم بأنّ صوّرتا الأمر وكأنّ إسرائيل تمانع هذا المشروع الأميركي، وأنّ الولايات المتحدة فرضته على إسرائيل، وأنّ الولايات المتحدة جادّة في حلّ أزمة الجوع في القطاع عن طريق هذا الميناء.
هذه أكبر خدعة يتعرّض لها الأهل في غزّة، وهذه واحدة من أخبث المحاولات الأميركية لتحقيق «إنجازات» لإسرائيل عجزت عن تحقيقها في ميادين القتال والمواجهة.
كيف؟
الذهاب باتجاه خيار «الميناء» أوّلاً، هو تسليم أميركي بأنّ المساعدات ستكون محصورة بالولايات المتحدة، وهي الجهة الوحيدة التي تتحكّم بها قبل أن يتمّ «التدقيق» بها في ميناء أسدود، أي أنّ لا علاقة لأيّ دولة عربية أو غير عربية بهذا التحكُّم، وسيبدو نتنياهو من خلال التدقيق بالسلع الداخلة إلى القطاع وكأنّه يتحكّم بكلّ شيء بما في ذلك السلع التي تُدخلها الولايات المتحدة، وسيبدو الأمر وكأنّ الولايات المتحدة قد وافقت على كلّ هذه الإجراءات من أجل أن يتمّ إدخال المساعدات «بأيّ ثمن» منعاً لكارثة المجاعة المُحدِقة بأهل القطاع؟
وثانياً، فإنّ الفترة الفاصلة بين الآن وتجهيز الميناء، حيث تشير التقديرات إلى أنّ الأمر سيستغرق عدّة شهور ستكون بمثابة الفرصة التي أُعطيت لإسرائيل «لعصر» فصائل المقاومة، وإجبارها على التنازل، أو إلحاق ضربات قويّة بقواها العسكرية، وبهذا تكون دولة الاحتلال في وضع تفاوضي مناسب، خصوصاً أنّ التجويع سيترافق مع ضربات مركّزة ستشنّها إسرائيل على رفح دون الدخول البرّي لها ما سيفاقم بصورة مروّعة من حجم المعاناة الإنسانية.
تخطّط الولايات المتحدة من خلال استقدام ما يقارب ألف عنصر من قوات «المارينز»، لحماية إقامة المشروع، كما تدّعي لكي تكون هذه القوات بمثابة رأس حربةٍ لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، وذلك لأنّ هذه القوات على ما يبدو ستكون جزءاً من ترتيبات أمنية ستلي مباشرة وقف الأعمال العسكرية.
وستكون، أيضاً، هذه القوات على ما يبدو جزءاً من قوات أخرى «عربية» ستضاف إلى «المارينز» للتمركز في مناطق معينة من القطاع بعد أن يتمّ انسحاب قوات جيش الاحتلال منه إذا لزم الأمر، ولن يكون بمقدور أحد حينها أن يفرض سلطته في القطاع دون موافقة هذه القوات، أو التنسيق الكامل معها.
وهكذا فإنّ «مشروع الميناء» ليس له علاقة من قريبٍ أو بعيد بالبعد الإنساني الذي تتحدّث عنه الولايات المتحدة لأزمة الجوع في القطاع، لأنّ الأخيرة تستطيع أن تؤمّن المساعدات لو أرادت عَبر الممرّات البرّية من معبر رفح، ومن معبر «كرم أبو سالم»، ومعابر أخرى، ولكنّها لجأت إلى «مشروع الميناء»، لأنّها باتت على قناعةٍ تامّة بأنّ إعطاء إسرائيل لعدّة شهور أخرى هو الحلّ الوحيد أمامها لاستكمال الحرب ضدّ القطاع. لكن الأمر طبعاً لا يقف عند هذا الحدّ، وهنا قد يكون مربط الفرس.
وفي أغلب الظنّ، أيضاً، فإنّ تمويل إعادة بناء، وليس «إعمار غزّة، وذلك لأنّ حجم الدمار للمباني والمرافق والبنى التحتية أكبر من أيّ إعمار، وهو يحتاج إلى بناء وإعادة بناء شاملة» سيكون من عائدات استثمار الغاز المقابل للقطاع، خصوصاً أنّ أحداً لم يعد متحمّساً للمشاركة في إعادة البناء طالما أنّ إسرائيل لا تلتزم بعدم تدمير كلّ ما ستتمّ إعادة بنائه.
وهكذا فإنّ إسرائيل والولايات المتحدة ستكونان في وضع للاستئثار بهذه العائدات والسيطرة عليها بدلاً من أن تتحمّلا المسؤولية المباشرة عن الدمار الذي قامتا به عن سابق تخطيط، وعن وعيٍ ودراية كاملين.
ولا يغيب عن البال هنا، أيضاً، أنّ الميناء المزمع إقامته سيكون أقرب ما يمكن إلى حقول الغاز، وفي مناطق معيّنة لتأمين «قناة بن غوريون» مستقبلاً إذا ما تمكّنت إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة من فرض شروطهما في مرحلة ما «ما بعد الحرب».
وهكذا أصبحت المعادلة السياسية واضحة، بل شديدة الوضوح. لا وقفَ لإطلاق النار إلّا بأعلى درجةٍ ممكنة من «الاستجابة» للشروط الإسرائيلية، ولا دخول لمساعداتٍ إنسانية جدّية قبل أن يفتك الجوع بمئات آلاف الغزّيين، وقبل أن «تأتي» معركة التجويع أُكُلها، بعد أن فشلت معركة التدمير بكلّ ما انطوت عليه من أبعادٍ مروّعة ومهولة، وبعد أن تحوّلت الإبادة الجماعية إلى أزمةٍ للولايات المتحدة ولإسرائيل، وخصوصاً بعد أن بدأت بعض الأوساط «الغربية» بالتراجع عن دعمها وإسنادها لهذه الإبادة الهمجية.
بكلّ هذه الأبعاد فإنّ «الميناء المؤقّت» هو أخطر خديعة يتعرّض لها شعبنا بعد كلّ هذه الحرب الطويلة المدمّرة.
والخوف ألا تكون هذه الخديعة الخبيثة تقتصر على كلّ هذه الأخطار، وإنّما أن يتحوّل هذا الميناء قريباً، أو بُعَيدَ الحرب مباشرة إلى ميناء النزوح الجماعي، خصوصاً للفئات الشابّة بعد أن تحوّل القطاع إلى مجرّد أرضٍ محروقة، لا تصلح للحياة الطبيعية، أو بعد أن تحوّل القطاع موضوعياً إلى بيئة طاردة للعيش، وطاردة لكلّ غزّي وغزّية يطمح إلى ترميم حياته بعيداً ــ ولو مؤقّتاً ــ عن هذا البؤس الذي ستكون قد خلّفته هذه الحرب الإجرامية.
وبدلاً من أن يدفع الشابّ أو الشابّة، أو حتى الكهل والمسنّ، المرأة أو الطفل آلاف الدولارات من أجل الخروج من جحيم الحرب قد يتحوّل الميناء إلى ممرّ مجّاني للهجرة والتهجير.
ولهذا كلّه فإنّ على الجميع، على الكلّ الفلسطيني، الرافض لهذه الحرب، والرّاضي عنها كلّ الرضا، الذي ينتظر أن يُعيد سيطرته على القطاع قبل أن تتراجع قواه وإمكانياته، أو الذي ينتظر على قارعة الحرب من أجل أن يدخل على خطّ هذه السيطرة، عليهم أن يفهموا قبل فوات الأوان كلّهم ودون استثناء أنّ ما تخطّط له الولايات المتحدة، وكذلك إسرائيل هو أن ندخل في صراعٍ جديد على «السلطة»، وأن ننقسم من جديد بين رافضٍ وقابل على طريق أن نتحوّل كلّنا إلى مرفوضين وفاقدين للشرعية وللحقوق، ومنزوعي القدرة على البقاء والصمود.
هذا ما تخطّط له الولايات المتحدة وإسرائيل، فماذا نخطّط نحن أصحاب الحقّ، وأصحاب القضيّة، وأهل الوطن؟.