مع دخول العدوان شهره السادس، تبدو الصورة مختلفة عمّا كانت عليه في بداياته: أداء المقاومة، وتيرة القصف، تفاعل الناس، ردود أفعال المجتمع الدولي.. حتى المفاجآت التي انتظرناها لم تظهر، وتقريباً اتضحت الصورة.. مع الأخذ بالاعتبار أن الحروب تتضمن دوماً مفاجآت غير متوقعة.
لنبدأ بإسرائيل، كنا نعتقد أن إسرائيل لن تتحمل حرباً طويلة الأمد (هكذا قال الخبراء العسكريون)، وأنّها لن تتحمل خسائر بشرية، ولن تسمح لدباباتها أن تتعرض للقصف، وأن الخلافات الداخلية ستُسقط الحكومة، وستشطر المجتمع، وستُضعف الدولة، وأن المجتمع الدولي لن يسمح بالتهجير، وإذا حدثت مذبحة كبيرة سيسارع العالم لإدانة إسرائيل، وسيجبرها على إنهاء الحرب.
تبين أن إسرائيل قادرة على خوض حرب طويلة جداً، وأنها هيأت جمهورها لتقبل خسائر باهظة في الأرواح، وأنها غير مهتمة بالرهائن، وقادرة على تحمل ضغوطات أهاليهم، وتسويق أكاذيبها ببراعة ووقاحة، وقادرة أيضاً على تجاوز الضغوطات الدولية (التي لم تتحقق أصلاً) بل وجعل العالم منقاداً لها، وقادرة كذلك على تحمل خسائرها الاقتصادية مهما بلغت (لأنها تضمن التعويضات)، وأنَّ الأمن وقوة الردع أهم عندها من صورتها الإعلامية، وأنها قادرة على ضرب كل قرارات الشرعية الدولية والرأي العام العالمي عرض الحائط.
أما أميركا، فتبين أن كل ما يعنيها من الحرب هو أمن إسرائيل، وضمان تفوقها، وتحرير مواطنيها المحتجزين لدى المقاومة، وكل ما يتصل بذلك ويؤثر على الانتخابات الأميركية.. لذا ستظل تراوح مكانها، وتدير الأزمة، وتقدم وعوداً سرابية، وستظل أيضاً توفر الحماية السياسية لإسرائيل، وتمدها بما تحتاجه من أموال وأسلحة وذخائر.. بل وجرّ أوروبا إلى موقفها.
أما عربياً، فربما كان من الخطأ أساساً الرهان على الموقف العربي، أو توقع فعل عربي رسمي قوي ومؤثر، حتى أن هشاشة الموقف العربي لم تتمثل في ضعفه السياسي أو الإستراتيجي، بل حتى في عجزه عن إدخال قنينة ماء إلى غزة دون موافقة وإذن إسرائيل وبالتنسيق معها، وبالطريقة التي تحددها (إنزال المساعدات جواً مثلاً).
الموقف الشعبي (عربياً، وإسلامياً، وعالمياً) رغم أنه متقدم وجيّد، وقد خرجت التظاهرات الحاشدة في عموم مدن وعواصم العالم، إلا أن ذلك كله، وعلى أهميته، لم يوقف العدوان، وفي أحسن الأحوال قد يغير مواقف الحكومات ولكن على المدى البعيد، وحتى حالة التغيير في الوعي، وكشف حقيقة إسرائيل العنصرية والمتوحشة، وانحياز الغرب لها، وإعادة القضية إلى الواجهة.. كل هذا سيعطي ثماره بعد أمد بعيد.. وطبعاً، دون ضمانات أكيدة بتحقق ذلك.
كما أن العالم بعد خمسة شهور لم يعد يتابع العدوان بنفس الاهتمام والشغف، فهناك عشرات الحروب وبؤر التوتر والصراع المتفجرة في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي فإن الإعلام يبحث عن كل ما هو جديد ومثير.
أمّا ما يعرف بـ»محور المقاومة»، والرهان على «وحدة الساحات»، ومشاركة «حزب الله» في الحرب بكامل قوته.. فهذه كلها كانت مجرد أمانٍ وخطابات إنشائية، وتهديدات، واستخدام لقوى محلية لأغراض متصلة بأجندات وتوازنات إقليمية، وتأثيراتها على مجريات الحرب لحد الآن محدودة. وكل ما قيل عن اتساع رقعة الحرب، وتحولها إلى حرب عالمية.. مجرد فزاعة، استخدمتها أميركا لإعادة مكانتها وسيطرتها على المسرح الدولي.
نأتي إلى الساحة الفلسطينية.. بات معروفاً أن جماهير الضفة الغربية وفلسطينيي الداخل لم يتفاعلوا مع العدوان بالدرجة المأمولة، فقد كان راسخاً في وعيهم الباطني أن إسرائيل تتربص بهم، بل وتنتظر منهم ردة فعل قوية لتكرار ما حدث في غزة في الضفة، ولوضع كل شعب فلسطين على حافة الهاوية، وتهيئة الظروف للتخلص منهم وترحيلهم.. فضلاً عن قلة إمكانياتهم ومحدودية خياراتهم، في ظل الهجمة الإسرائيلية الشرسة والمتأهبة والمختلفة عن كل ما سبق.
في غزة، وبعد اجتياح كامل القطاع، تبين أن المقاومة غير قادرة على ردع العدوان، ولا عن صد الجيش، أو إعاقة تقدمه، أو التحصن في مكان ما يصعب على الجيش وصوله.. وتقريباً توقفت الصواريخ، ودمر الاحتلال أغلب الأنفاق، ولم يتبقَ سوى جيوب مقاومة تستبسل في الدفاع عن مواقعها، واستهداف ما يمكنها من دبابات وآليات للعدو، والورقة الأخيرة لدى «حماس» هي الرهائن، والتي اتضح أن إسرائيل غير مكترثة بها.
مفاوضات الهدنة أو التوصل إلى وقف إطلاق النار تراوح مكانها، ومتعثرة، وإسرائيل متمسكة بشروطها، وتحاول جر «حماس» إلى مزيد من التنازلات.. ومن الواضح أن أميركا غير جادة بإيقاف الحرب.
الحاضنة الشعبية بدأت تضعف وتذوي، فبسبب سياسة التجويع والتعطيش والإفقار ومنع وصول المساعدات، ومع انهيار المنظومة الصحية، وتدمير المنظومة التعليمية، والاقتصادية، وتخريب البنية التحتية، وتفشي الأوبئة، واقتراب الناس من المجاعة وانتشار أمراض سوء التغذية.. وكل ما ينجم عن الحروب من أمراض وظواهر اجتماعية سلبية كالاستغلال وجشع التجار والتعديات وسرقة البيوت، وسوء توزيع المعونات.. كل هذا خلق ظروفاً بيئية وصحية واجتماعية بالغة السوء وفي منتهى القسوة.
بعد كل هذا الدمار والخراب حققت إسرائيل أهم أهدافها.. وبقي عليها حسم موضوع اليوم التالي للحرب، أي تحديد من سيحكم غزة.. وهي من القضايا المستعصية والمعقدة، وربما تكون «حماس» الجهة الوحيدة القادرة على إيجاد حل لها، وبالتالي إيقاف الحرب. وبحسب ما كتب الدكتور تيسير عبد الله من غزة، لدى «حماس» خياران: وقف الحرب وحقن ما تبقى من دماء الأبرياء، وهذا يتطلب منها التضحية بنفسها (أي التخلي عن حكم غزة) لإنقاذ شعبها. والخيار الثاني استمرار الحرب، بكل ما تعنيه من استمرار إبادة المدنيين. وفي هذا الخيار ستحاول «حماس» الإبقاء على أمل استمرار حكمها والمحافظة على نفسها. وهي محاولة ليست مضمونة في ظل حجم التدمير الاحتلالي، وقد تخسر في هذا الخيار نفسها والشعب معاً. ولذلك لا داعي للتركيز الشديد في البحث عن الكرة في أي ملعب الآن، أو أن تأتي المفاوضات بمعجزة.
ما كان غامضاً في بداية الحرب، بات أقرب للوضوح.. والأهداف الكبيرة التي سعينا لها صارت أبعد وأبعد.. وصار منتهى الطموح أن تتوقف الحرب، ونحقن دماء من ظل على قيد الحياة.. وانتظار جولة صراع جديدة، على أمل أن نستفيد من هذه التجربة القاسية واللعينة.