لفلسطين، على مدى التاريخ، دور محوري في رسم الخريطة السياسية للعالم. حتى من قبل أن يصبح تعبير «النظام العالمي» دارجاً في مجال العلوم السياسية، كانت فلسطين هي مركز الدائرة. ومن يسيطر ويهيمن على هذه الجغرافيا، تحديداً، يهيمن على العالم، ويفرض القوانين وسلّم القيم التي تنصاع لها بقية الشعوب والدول على كامل خريطة الكرة الأرضية.
هكذا تقول كتب التاريخ، منذ أزمان سومر وآشور والفراعنة والفرس، يليهم الإغريق والرومان والعرب، (العصر الأموي والعصر العباسي) وانتهاء بالعثمانيين والبريطانيين والولايات المتحدة الأمريكية.
يروي الفرنسي لويس انطوان فوفليه دي بورين (1769 ـ 1834) صديق نابليون بونابرت، وزميله على مقاعد الدراسة، قول نابليون خلال فترة منفاه في جزيرة القديسة هيلانة: «لو سقطت عكا في يدي، لكنت غيّرت وجه العالم». ومعروف أن نابليون حاصر عكا لمدة شهرين، واندحر عنها حيث نجح الأسطول العثماني في هزيمة الأسطول الفرنسي.
ثم دارت الأيام لتصل الى حقبة تاريخية جديدة، بدأت يوم 11.12.1917، عندما انتصر الجيش البريطاني، بقيادة إدموند اللنبي، على جيش العثمانيين، وترجّل اللنبي عن حصانه عند أسوار القدس، ودخل القدس العاصمة الفلسطينية مشياً على قدميه، مبرراً ذلك بأنه لن يدنس المدينة المقدسة بدخولها كمقاتل على حصانه، وانما يدخلها كرجل مؤمن يعيد لها مجدها ويحافظ على قدسيّتها.
يومها كان مانشيت الصفحة الأولى في جريدة «نيويورك هيرالد» الأمريكية، التي «زيّنتها» صورة اللورد اللنبي: «بريطانيا تنقذ القدس بعد 673 سنة من حُكم المسلمين».
لم يكن اللنبي صادقاً. جاء الى فلسطين ودخل عاصمتها غازياً ومحتلّاً، لتبدأ بريطانيا منذ ذلك اليوم في التطبيق العملي، على الأرض، لمشروعها الكبير: تقطيع «بلاد الشام» (بالاتفاق مع فرنسا وروسيا القيصرية، لكن روسيا انسحبت من هذا المشروع الإجرامي مع انتصار الثورة البلشفية فيها) الى أربعة كيانات سياسية: سوريا الصغرى، جبل لبنان، إمارة شرق الأردن، وفلسطين، للاستفراد بفلسطين، والبدء بتنفيذ «وعد بلفور» واشتراط «عصبة الأمم» إقرار وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بتعهدها بتطبيق وعد بلفور، بإقامة كيان سياسي يهودي في فلسطين، ليفصل ويقطع تواصل المشرق العربي بالمغرب العربي، ويفصل آسيا عن إفريقيا بهذا الكيان السياسي الهجين.
كانت هذه المقدمة هي النتيجة الأهم للحرب العالمية الأولى، وبمساعدة بريطانية ودعم كامل منها، تمكنت الحركة الصهيونية العنصرية من إعلان إقامة «دولة إسرائيل» يوم 15 أيار 1948، بعد ثلاث سنوات فقط من انتهاء الحرب العالمية الثانية. ظلّت بريطانيا متربعة على عرش العالم حتى هزيمتها في «العدوان الثلاثي» على مصر 1956، وورثت أمريكا كرسي بريطانيا و«ممتلكاتها» وكانت إسرائيل درّة التاج في هذه الممتلكات، وبامتلاكها الهيمنة على «أرض فلسطين» أصبحت أمريكا، شاغلة للمقعد الأول على رأس الهرم العالمي. وباندحار الاتحاد السوفياتي في «الحرب الباردة» وتفككه في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أصبحت أمريكا، منفردة، على رأس «النظام العالمي» الذي يترنّح هذه الأيام، بفعل السابع من أكتوبر، وما تلاه حتى الآن من حرب إسرائيل على غزة، مقدمة لتشكّل نظام عالمي جديد، يرث نظام القطب الواحد.
أفشلت مدينة عكا الفلسطينية نابليون بونابرت في «تغيير وجه العالم» بعد أن كان قد وجّه ليهود العالم نداءً بالانضمام الى جيشه لـ«يعيدهم» الى «أرض الميعاد». لكن اللنبي نجح، من خلال احتلال فلسطين وعاصمتها، القدس، في وضع حجر الأساس لتغيير وجه العالم.
وتجيء أحداث غزة ومعاناة أهلها واللاجئين إليها، لتغيير وجه العالم من جديد في هذه الأيام، واستبداله بوجه عالم أكثر عدلاً وأكثر استقراراً.
هذه هي صورة الوضع الحالي في إسرائيل: اضطراب وتخبّط، أفقد إسرائيل استيلاءها على رقعة الضحية، واصبحت في نظر العالم المستنير «الجلّاد» وأصبحت فلسطين وشعبها هي الضحية
هكذا يجب علينا أن نفهم ونفسر ما تشهده هذه الأيام من أحداث جسام. وهذا هو «سر» المبالغة الأمريكية في الدعم غير المسبوق لحرب إسرائيل على غزة: حاملات طائرات، غواصات نووية، جنود وضباط وقيادات عسكرية أمريكية، تشارك «الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر» في حربه على 360 كيلومتراً مربعاً، هي مساحة قطاع غزة، وعلى أهله، واللاجئين فيه منذ النكبة 1948، وعددهم جميعاً اقل من اثنين ونصف مليون نسمة.
برّرت إسرائيل تآمرها ومشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 بقرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس، ومنع سفن إسرائيل من عبورها. وبررت إسرائيل شن حرب 1967، بقرار عبد الناصر إغلاق مضائق تيران في خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية. أما اليوم، وعندما قررت قوات يمنية إغلاق باب المندب على البحر الأحمر، في وجه الملاحة الإسرائيلية، والسفن المتوجهة نحو الموانئ في فلسطين المحتلة، تولّت أمريكا التصدي، مع شركائها في دول المعسكر الغربي، وإعفاء إسرائيل من مواجهة هذا الإغلاق، تماماً كما أعفتها من المشاركة، وحتى من الرد، خلال حرب الخليج الأولى على العراق.
من كل هذا السرد والشرح لأحداث التاريخ البعيد والقريب الخاص بفلسطين والعالم، نصل الى سؤال أيامنا التاريخية التي نعيش ونتابع أحداثها. فماذا نرى؟.
حشدت إسرائيل كل جيشها العامل، وأكثر من 350 ألف جندي وضابط من قوات الاحتياط، للانتقام من أحداث أكتوبر؛ والتحسب لمواجهة قوات «حزب الله» اللبناني؛ واحتمالات تفجر الأوضاع في الضفة الغربية. وأعلنت الحكومة الإسرائيلية تكليف كل هذا الحشد بتحقيق أهدافٍ غير قابلة للتحقيق، من قبيل تدمير حركة «حماس» وتهجير أهل قطاع غزة واللاجئين فيه.
وهجّرت، في مقابل ذلك نحو 200 ألف يهودي إسرائيلي من كيبوتسات ومستوطنات في «غلاف» قطاع غزة، والحدود الجنوبية للبنان في الجليل، الى مناطق آمنة الى حد ّما.
وفي اليوم الثالث لحرب إسرائيل على غزة، أعلن وزير الدفاع في حكومتها، يوآف غالانت، أن إسرائيل ستمنع دخول الماء والغذاء والمحروقات والدواء الى قطاع غزة المحاصر أصلاً منذ أكثر من عقد ونصف العقد. كل هذه الأهداف تكسّرت، وبعد يوم من تصريح غالانت هذا، تساءل الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، كيف يمكن تفسير وفهم تعيين هذا الغبي وزيراً للدفاع في إسرائيل».
لم تعان الحركة الصهيونية في تاريخها، منذ إعلان بنيامين تيودور هرتسل انطلاقتها الرسمية في مؤتمر بازل، سنة 1897، مأزقاً بعمق واتساع المأزق الحالي. ومثلها في ذلك: لم تعان إسرائيل منذ إعلان دافيد بن غوريون إقامتها، عشيّة يوم 15 أيار 1948، مأزقاً بعمق واتساع المأزق الحالي.
ها قد مضى على شن إسرائيل حربها على غزة، وعلى الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المستعمرة (والقدس العربية منها) 161 يوماً، أكثر من خمسة أشهر، ولم تحقق إسرائيل وجيشها أي واحد من أهدافها المعلنة.
دخلت إسرائيل حربها الإجرامية على غزة بعد أكثر من ثلاث سنوات تخللتها أربع معارك انتخابات نتيجة تمزق النسيج المجتمعي في إسرائيل. دخلتها بعد مظاهرات متواصلة بين فئات المجتمع اليهودي فيها لأكثر من تسعة أشهر متواصلة. لكن أحداث السابع من أكتوبر شكّلت عملية إيقاظ من كابوس أنتج لإسرائيل شعاراً جديداً هو «معاً سننتصر». لكن هذا الـ»معاً» لم يعمّر أكثر من أسابيع قليلة. أفاد بتعزيز حكومة نتنياهو بكتلة «المعسكر الرسمي» بقيادة الجنرال بيني غانتس، وتشكيل «مجلس الحرب» ليقوم بالمهمات الموكلة لـ«الكابينيت» الذي يعني «الحكومة المصغّرة» لاستبعاد المهووسين: بن غفير وسموطرتش من الجهة التي تتخذ القرارات الأساسية في موضوع الحرب والسلام.
هذا الانقسام في المجتمع اليهودي في إسرائيل لم يعد مجرّد انقسام. أصبح تمزّقاً في نسيج ذلك المجتمع عمودياً وأُفقياً. وسرعان ما وصل التمزّق حتى الى «مجلس الحرب» وآخر هذه التمزّقات خروج كتلة جدعون ساعر من كتلة المعسكر الرسمي، ومطالبته بتعيينه عضواً في مجلس الحرب، ورفض غانتس ضم ساعر اليه.
هذه هي صورة الوضع الحالي في إسرائيل. اضطراب وتخبّط، أفقد إسرائيل استيلاءها على رقعة الضحية، واصبحت في نظر العالم المستنير «الجلّاد» وأصبحت فلسطين وشعبها هي الضحية التي يتضامن معها العالم بأسره.