سيتذكر الناس مجازر "الطحين الأحمر" و الرصيف المائي (الميناء المؤقت) ردحا طويلا من الزمن، و سيكتشفون ان إسرائيل في حربها الابادية على غزة قد تجاوزت تحقيق أهدافها المعلنة (القضاء على حماس و إعادة المحتجزين)، الى تحقيق ما هو أبعد من ذلك بكثير.
تكثف الامر في الأسابيع الأولى او الأشهر الأولى في نزعة ثأرية انتقامية غرائزية تحت شعار "حق الدفاع عن النفس" الذي طال تدمير غزة دمارا مطبقا، ولم يعد خافيا ان الهدف أصبح شأنا تاريخانيا "اسرائيلانيا يهودانيا توراتيا" صرفاً، ملخصه انهاء القضية الفلسطينية برمتها، وتمثل هذا في اجماعين كبيرين، الأول رفض فكرة وقف "الحرب" على غزة، حتى لو أدى ذلك الى قتل نصف المختطفين، والثاني رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية حتى لو كانت على النمط الأمريكي منزوعة السلاح والاستقلال والحرية.
بعد ستة أشهر تظهر فجأة فكرة الميناء المؤقت لتوصيل المساعدات الإنسانية بمبادرة أمريكية ومباركة عربية وموافقة إسرائيلية. ورغم ان التنفيذ سيستغرق شهرين ، والتمويل عربي (اماراتي قطري)، فالأولى ان يتم إدخال آلاف الشاحنات المنتظرة عند معبر رفح (المصري الفلسطيني) منذ عدة اشهر، والأولى ان يتم استخدام ميناء اسدود الدولي الذي لا يبعد عن غزة سوى بضعة اميال بحرية، والأولى من هذا وذاك ، هو وقف إجراءات التجويع حيث بدأ الناس يتساقطون جوعا وخاصة الأطفال منهم، ناهيك عن محاصرة الجائعين الهارعين الى بعض الشاحنات التي سمحت إسرائيل بدخولها ورميهم بالرصاص.
إدخال مليوني وجبة طعام يوميا عبر الميناء الإنساني المزعوم، يفتح شهية البعض للاشراف على توصيل هذه المساعدات، فلو كان سعر الوجبة الواحدة عشرة دولارات (سعر ساندويش ماكدونالد)، فإن الحديث هنا يدور عن عشرين مليون دولار في اليوم، او ما يزيد على نصف مليار دولار في الشهر. وجاء الموقف العشائري الذي راهنت عليه إسرائيل موقفا رافضا أبيا مشرفا، ذلك ان العشائر تنتمي للشعب والوطن ، لا للطبقة او للبنك ، كما ينظر الكثيرون ممن تاجروا في القضية وخبرناهم عن قرب خلال الثلاثين سنة الماضية.
من بين من تم طرحهم لتسلم هذه المهمة القذرة، بالإضافة للعشائر، حركة فتح والدحلان والإدارة المدنية وجمعيات دولية وحكومة السويد وحكومة التكنوقراط التي تم تسمية رئيسها قبل يوم او يومين فعليا. اننا بالطبع لا نريد لهذه الحكومة ان تتورط في هذا الشأن الخلافي قبل أن تحصل على مرجعية وطنية تتمثل في منظمة تحرير موحدة تضم فصائل المقاومة وبالتحديد حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وان استناد هذه الحكومة التكنوقراطية الى جيش فلسطيني يتم اعداده أمريكيا لن يغير من طبيعة المهمة وما تنطوي عليه من مخاطر وتعقيد. ولو كان المقصد سليما ونظيفا ، فإن أهل غزة القادرون على مجابهة إسرائيل وأمريكا بأرواحهم وامعائهم الخاوية وارادتهم الحرة ، قادرون بالتأكيد على توزيع مساعدات ، وخصوصا انها مغمسة بدمهم، والدفاع المدني قادر على ذلك، وكذلك البلديات، واللجان المحلية في كل قرية ومخيم وشارع.