تل أبيب/واشنطن: ذهاباً/إياباً

WptCE.jpg
حجم الخط

الكاتب: رجب أبو سرية

 

حتى لو فاز جو بايدن بترشيح حزبه الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية التي ستجري في شهر تشرين ثاني المقبل كما هو متوقع، وحتى لو فاز على منافسه الجمهوري المحتمل دونالد ترامب، وهذا أمر غير مؤكد، فإن التاريخ سيذكر بايدن وحتى ترامب، ليس باعتبار أن أحدهما وعلى غير عادة معظم الرؤساء الأميركيين لم ينجح في البقاء في البيت الأبيض لولاية ثانية يسمح له بها الدستور الأميركي، وحسب، بل إن التاريخ سيذكر بأن أميركا ظلت حائرة مدة ثمانية أعوام، بين رجلين طاعنين في السن، بل هما أكبر من دخل البيت الأبيض من الرؤساء منذ عهد رونالد ريغان، في عقد ثمانينيات القرن الماضي، وبين رئيسيين غير مقنعين، أظهرا ضعفاً في إدارة شؤون البلاد، وفي رسم سياسة خارجية تليق بمكانة أقوى دولة في العالم، بشكل لم تظهر عليه الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية.
الحقيقة أن الرئيس السابق ترامب أظهر ضعفه كرئيس لدولة هي الدولة التي تقود العالم منفردة منذ انتهاء الحرب الباردة، حين بدأ عهده بمواجهة كوريا الشمالية، وسرعان ما تراجع، ومارس سياسة متخبطة، ضاعفت من قوة وعدد خصومه وأعدائه داخل أميركا وخارجها، وربما كان هذا سبب فشله في إعادة انتخابه أمام منافس كان يبدو في متناول اليد، وأظهر "جنونا" حين حرض أنصاره على اقتحام "الكبيتول" في محاولة لعدم إعلان منافسه رئيساً منتخباً رسمياً، فيما أظهر بايدن في ولايته الأولى التي هي في الأشهر الأخيرة من مدتها القانونية ضعفاً بيناً أيضاً، وإن لم يظهر بشكل مثير للجدل، "أكروباتي" كما كان سلفه، لكنه بدأ عهده بانسحاب مرتبك من أفغانستان، ثم بفشل في إعادة العمل باتفاق 2015 مع إيران، وكان أسوأ ما حققه، هو أنه زج بكل قوة أميركا وراء أوكرانيا في حربها مع روسيا، وذلك كمدخل لإعادة تثبيت زعامة أميركا للنظام العالمي الجديد.
ولم ينجح بايدن فيما يخص ملف الصراع في الشرق الأوسط في تحقيق أي تقدم، لا في الملف الإيراني _كما أسلفنا_ ولا في ملف التطبيع مع السعودية، ولا في الملف الفلسطيني/الإسرائيلي الذي يعتبر جوهر الصراع في الشرق الأوسط، رغم أنه بدأ عهده بإطلاق الوعود والشعارات، من مثل فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وإحياء حل الدولتين، وصولاً إلى تخبطه خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، المتواصلة منذ نحو ستة شهور، بكل ما يتخللها من جرائم حرب ترتكبها إسرائيل بحق الأطفال والنساء من المدنيين في غزة، إضافة إلى إرهاب المستوطنين الذين شكلوا مع ايتمار بن غفير ميلشيات إرهابية يهودية مع تسليح مئة ألف منهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، أي خلال خمسة شهور فقط، وذلك من أصل 300 ألف مستوطن، ينوي بن غفير تسليحهم، أمام نظر بايدن، الذي لا يكف عن إطلاق الكلام الفارغ، إن كان ذلك الذي يندد بإرهاب المستوطنين في الضفة الفلسطينية، أو بجرائم الحرب في غزة، بما في ذلك حرب التجويع، حيث تعجز أميركا حتى عن إدخال ما ترسله هي من مواد إغاثة لسكان القطاع المنكوبين بإرهاب الدولة الإسرائيلية.
لقد ظهر بايدن كرئيس ضعيف للغاية أمام بنيامين نتنياهو، مع أن نتنياهو ليس في كامل قوته، بل هو ليس رئيس حكومة قوياً، مع بدء عهده بضم وزراء حزبي اليمين المتطرف، نقصد حزب القوة اليهودية وحزب الصهيونية الدينية، وذلك بالرغم من معارضة بايدن لذلك، بل ورفضه استقبال واشنطن لوزراء هذين الحزبين، وحتى تأخر بايدن في دعوة نتنياهو لواشنطن كما هي عادة الرؤساء الأميركيين عند تولي رئيس حكومة إسرائيلي جديد، وأكثر من ذلك خلال شهور الحرب على غزة، وما رافقها من رفض عالمي شعبي عارم ورسمي شبه كامل، بدليل مشاريع قرارات مجلس الأمن، وآخرها مشروع القرار الجزائري، لوقف الحرب الذي أيده 13 عضواً مع امتناع بريطانيا عن التصويت واستخدام أميركا للفيتو.
ومع كل هذه المعارضة الداخلية الإسرائيلية، ومع كل ما يواصل إعلانه بايدن من اختلافه ومعارضته لاستمرار نتنياهو في مواصلة الحرب على المدنيين، يظهر بايدن ضعفا مستمرا، لا يليق بدولة تعتبر أقوى دولة في العالم، رغم أنه مسلح باحتجاجات داخلية متواصلة تشهدها المدن الأميركية للحرب، بل ومع تزايد الأصوات المنددة بجرائم الحرب الإسرائيلية داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وصولا إلى تقدم زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ  تشاك شومر وهو يهودي مؤيد تاريخيا لإسرائيل، بالدعوة إلى إجراء انتخابات إسرائيلية بهدف إقصاء نتنياهو، الذي يعتبره شومر وبايدن أيضا ضاراً بإسرائيل، أي أن بايدن لم ينجح في الإطاحة بنتنياهو، لإنقاذ إسرائيل التي يحب من شر التطرف الذي جعل من إسرائيل دولة مجرمة حرب في نظر العالم بأسره.
وأن تعود أميركا بعد عدة أشهر لتختار واحدا من رجلين هما جو بايدن ودونالد ترامب، رئيساً لمدة أربع سنوات قادمة، أي حتى العام 2028، في الوقت الذي لم يسقط فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحسب، بل أعيد انتخابه قبل أيام لولاية أخرى مدتها ست سنوات، أي حتى العام 2030، يعني بأن أميركا، من المؤكد أن تواجه خصوماً دوليين لن يقبلوا قيادتها منفردة للعالم، ولن يقوى لا بايدن ولا ترامب على إعادة التاريخ للوراء، وأن أميركا بعد أن يتأكد رسميا خلال السنوات القادمة، أي خلال الولاية الرئاسية ما بين عامي 2014_2028، أنها  فقدت قيادتها المنفردة للنظام العالمي، ستكون بحاجة إلى تغيير داخلي حاسم، سيظهر على شكل انتخاب رئيس مختلف، بثقافة رئاسية جديدة، قد يكون عنوانها التخلص من القواعد الاستعمارية المتقدمة التي اعتمدت عليها أميركا خلال الحرب الباردة وما بعدها لمحاصرة خصومها، نقصد بالتحديد كلاً من كوريا الجنوبية، أوكرانيا وإسرائيل، وذلك بعد أن تحولت تلك الدول، خاصة إسرائيل إلى عبء سياسي وحتى اقتصادي على أميركا، وبعد أن تكون إسرائيل قد تسببت في أكثر من مناسبة في خسارة، أو على الأقل في التعجيل بخسارة أميركا لزعامة العالم.
والحقيقة أن إسرائيل ستواجه استحقاقات لا حصر لها ما بعد حربها على غزة، قد يكون أقلها صخباً، بل وحتى ربما أسهلها عليها، هو الترتيب الخاص بإدارة القطاع، والذي لن يكون إلا واحداً من اثنين _بتقديرنا_ كلاهما مر على إسرائيل، ونقصد بهما، عودة السلطة الفلسطينية لإدارة غزة، إن كان وفق ترتيب دولي، مع تجديدها الذي بدأ بتكليف الرئيس محمود عباس للدكتور محمد مصطفى بتشكيل حكومة مستقلين من التكنوقراط، أو عبر حكومة وحدة وطنية، أو بقاء حماس تدير القطاع، في ظل استمرار الانقسام، أو في ظل وحدة وطنية مع فتح والسلطة، ونظن بأن إسرائيل ستواجه رفع قضايا عديدة ضد قياداتها السياسية والعسكرية وضد جنودها الذين ارتكبوا جرائم الحرب البينة وبالأدلة القاطعة، وإذا كانت محكمة العدل الدولية لم تنجح في اتخاذ قرار صريح بوقف الحرب منذ كانون الأول الماضي، فإن العالم الذي بات على قناعة شبه تامة بارتكاب إسرائيل لتلك الحرب، سيتقدم برفع عشرات، بل مئات الدعاوى التي تتهم الإسرائيليين بارتكاب جرائم الحرب.
أما جو بايدن الذي نعتبره واحدا من أضعف الرؤساء الأميركيين، خاصة وهو يواجه رئيس حكومة إسرائيلياً، يعلن ليل نهار اختلافه معه، وبعد أن تابع سياسة إظهار الإحباط والاكتئاب من رئيس حكومة إسرائيل، بات مواطنوه على قناعة بأنه يشن حرباً تدمر مكانة إسرائيل في العالم، بدافع البقاء في الحكم، بعيداً عن المساءلة القضائية، وهو_أي بايدن، الذي بإمكانه في لحظة يتخذ فيها قرارا حاسما، على غير ما ظهر عليه طوال أربع سنوات من تردد، أن يوقف الحرب، ويرسل نتنياهو إلى بيته، وأن ينطلق هو نحو الانتخابات بقوة في مواجهة ترامب، لكنه بعد قطيعة نحو شهر لم يتحدث خلاله مع نتنياهو، عاد للاتصال به قبل أيام، وكأنه يستجديه على أمل أن تنجح الدوحة والقاهرة في تحقيق ما يعجز هو عن تحقيقه، ويعتبره مهماً لحملته الانتخابية، أي انجاز صفقة التبادل، التي لا يريدها نتنياهو، فيتمترس بموقفه الذي لا يمكن لحماس قبوله، وهكذا وبعد أن استقبلت واشنطن بيني غانتس، ينفتح الطريق بينها وبين تل أبيب ذهاباً وإياباً، ليذهب وفد نتنياهو إلى بايدن ليناقش خطة اجتياح رفح، فيما يجيء أنتوني بلينكن للمرة السادسة، بدعوى التباحث مع إسرائيل حول مستقبل غزة، وكأن غزة وفلسطين، ما هما إلا شأن داخلي أو حتى بند انتخابي فقط بين بايدن ونتنياهو؟!