هذه الحرب تتوقّف فقط، لكنّها لا تنتهي!

D2EE8231-76C0-4BE1-866C-C276BEEBC922-e1601304572733.jpeg
حجم الخط

الكاتب: عبد المجيد سويلم


 

من حيث المبدأ، فإنّ الحروب، بصرف النظر عن مدى حدّتها ودوافعها وأهدافها وخسائرها وضحاياها، لا تنتهي إلّا إذا انتصر فريق منها على فريق، وأرغمه على الاستسلام أو الإذعان والخضوع.
وقد تنتهي الحرب إذا وصل كلّ طرف فيها، وأيقن أنّ الانتصار الذي يؤدّي بالطرف المهزوم إلى الخضوع أو الإذعان بات مستحيلاً، وأنّ تحقيق الأهداف الكاملة لكلّ أطرافها أصبح متعذّراً، وأنّه لا سبيل إلى مثل هذا «التحقيق» باستمرار الحرب، وأنّ إنهاء الحرب هو السبيل الوحيد الممكن لكي لا تصل الحرب إلى هزيمةٍ تامّة لأحد طرفيها أو كليهما.
في معادلة الحرب العدوانية التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزّة منذ قرابة الستة أشهر لا يبدو مطلقاً، ولا بأيّ معنى من المعاني، أنّنا نقترب من انتصارٍ من أيّ نوعٍ، لأيّ طرفٍ على طرف.
ليس هذا فقط، وإنّما أبعد من ذلك لأنّ انتهاء الحرب عند الحدود التي تدور حولها، سيعني بصورةٍ أو بأخرى أنّ هناك هزيمة لطرف، وانتصاراً للطرف الآخر، حتى ولو أنّ هذه الهزيمة ليست حاسمة، أو حتى لو أنّ هذا الانتصار ضمنيّاً.
يُضاف هنا، أيضاً، أنّ الطرف الذي عجز وفشل حتى الآن أن ينتصر، وهو الطرف الإسرائيلي يعتبر أنّ مجرّد توقُّف الحرب بما قد يُفضي إلى انخفاض كبير في وتيرتها، وبما سيؤدّي إلى البحث عن طريق لإنهائها سيعني سقوط الطرف القائم عليها، واختفاء كامل الطاقم والحكومة والائتلاف عن مسرح الحكم في الدولة العبرية، وصولاً إلى ما يصل حد الذهاب مباشرةً للمحاكم والسجون.
ولهذا، ولكلّ هذه الأسباب، فإنّ الطرف الإسرائيلي سيرى في إنهاء الحرب نهايته، وهو يرى في توقُّفها خطراً عليه، وهو يعمل لكي يكون مثل هذا التوقُّف ــ إذا ما كان له من بُدّ أو ضرورة ــ «تشريعاً» لمواصلتها، وليس كميناً سيقضي عليه في نهاية المطاف.
إذا ما حاولنا أن نقرأ مواقف فصائل المقاومة الفلسطينية، ومواقف إسرائيل في إطار المفاوضات التي تتواصل في الدوحة، وكانت تتواصل في القاهرة، فإنّنا ومن دون عناء خاص سنلحظ أنّ «تكتيك» كلّ طرف ينطلق بالضبط من كلّ هذه الاعتبارات.
وبسبب تعثُّر الأهداف الإسرائيلية المعلنة لهذه الحرب الإجرامية فليس هناك من حلّ سوى أن تستمر، وأن يتمّ التحايل على هذه الأهداف، وعلى الجمهور الإسرائيلي المتعطّش لاستمرارها بشروط لا تتوافق مع رؤية ومصالح الفريق الذي يقوم عليها، وليس هناك من حلّ سوى أن يظلّ هذا الفريق يُناور ويُداور حول هذا المحور بالذات.
باختصارٍ شديد، فإنّ المقاومة في القطاع، وحتى خارجه، تريد أن تتوقف الحرب من أجل أن تنتهي، ويريد «فريق الحرب» الإسرائيلي ألا تتوقّف إلّا لتستمر.
هذه المعادلة لا يمكن أن تُقرأ جيداً إلّا إذا أحسنّا قراءة الموقف الأميركي حيال هذه المعادلة.
ماطلت الولايات المتحدة في الشهرين الأخيرين لكي لا يتمّ الذهاب إلى قرار أُممي بالوقف المطلوب لإطلاق النار، وبما يفضي إلى إنهاء الحرب عند درجةٍ معيّنة من الآليات المتتابعة لمثل هذا الوقف، بعدما كانت ترفض لأربعة أشهر كاملة أكثر من «هدنة» قصيرة لم يكن لها أيّ تأثير يذكر على مسار الحرب أو وتيرتها، وهي الآن تحوّل مسألة وقف إطلاق النار إلى هدنة جديدة، أطول من سابقتها، لكنها تُبقي الباب مفتوحاً على استمرارها، بل وتُشرعن هذا الاستمرار مدعوماً بقرار أُممي صادر عن مجلس الأمن.
ونستطيع أن نقول باطمئنانٍ تام: إنّ الولايات المتحدة قد نصبت كميناً من النوع الذي «أحسنت» تمويهه، والذي قدّمته إلى مجلس الأمن قبل أيّام، وتمّ إحباطه بصورةٍ مباشرة من قبل روسيا والصين لما كان ينطوي عليه من خطرٍ سياسي كبير.
من خلال هذا المشروع يمكننا التيقُّن من حقيقة الموقف الأميركي من معادلة الحرب بين التوقُّف والإنهاء.
لا ترغب الولايات المتحدة بإبقاء بنيامين نتنياهو المتحكّم الوحيد بخيوط القرار في إسرائيل، لأنّ من شأن ذلك أن يؤثّر ويحدّ من قدرتها على المناورة والإمساك بكلّ خيوط المفاوضات، وهي في نفس الوقت لا تريد أن يتحوّل «خلافها» مع نتنياهو إلى أزمةٍ داخلية في إسرائيل، من شأنها أن تخلط كلّ الأوراق بصورةٍ لا تقلّ خطراً على دورها، وربّما بصورةٍ أكبر.
تريد الولايات المتحدة أن تعيد «صياغة» أهداف الحرب بما يسمح بتحقيق صورة قادرة على إرغام نتنياهو على القبول بوقف إطلاق نارٍ يسمح «بتبديد» صورة مشاركتها في حرب الإبادة والتجويع، ويُبقي الباب مفتوحاً لتحقيق أهداف هذه الحرب بعد أن تعيد صياغتها، والمقصود هنا صورة دعم وتأييد لحرب الإبادة والتجويع.
وكما كتبنا منذ أكثر من شهرين، فقد بات هدف القضاء على حركة «حماس» هو إزالة التهديد الذي تمثّله، وهو الأمر الذي يعني من وجهة النظر هذه تحقيق «الأمن» لدولة الاحتلال، خصوصاً في منطقة «غلاف غزّة».
وبات عدم وجود «حماس»، وإنهاء سيطرتها وتحكُّمها بالقطاع يعني أن تكون مجرّد شريك سياسي وغير مباشر في إدارته، تماماً كما بات البحث عن حلّ سياسي شامل يعني قبول «حماس» بـ»الترتيبات» التي تجهّزها الولايات المتحدة للقطاع من أجل إعادة حصاره والتحكُّم به تحت يافطة «تنظيم إدخال المساعدات» على طريق إقرار المجتمع الدولي «بأولوية حل الدولتين»، وبضرورة الإسراع في هذا التوجُّه.
لا يمكن للولايات المتحدة من وجهة نظر مصالحها الإستراتيجية، ومن وجهة نظر ترتيباتها لأوضاع الإقليم بعد انتهاء الحرب، أن توافق على إنهاء الحرب الآن، وبالمقابل لا يمكنها أن تترك لنتنياهو أن يعرّض هذه الرؤيا، وهذه الترتيبات للتعثُّر أو العبث، أو تركها للمجهول، أو حتى لأي تطوّرات ليست في دائرة التحكُّم والسيطرة الأميركيتين، ولهذا فلا مناص من وجهة النظر الأميركية من العمل على تجريد الأخير من آليات التحكُّم التام بالقرار الإسرائيلي، ونحن في الواقع نقترب كثيراً من لحظة حسم هذه المسألة قبل حسم مسألة العلاقة الملتبسة بين وقف الحرب وانتهائها.
فإمّا سنكون أمام حرب استنزاف ستكون مفتوحةً من حيث الزمن، وكذلك من حيث التطوّرات والتفاعلات، داخلياً في إسرائيل، وإقليمياً على مستوى حالة النظام العربي، وحالة التدحرج إلى حرب أوسع، وإمّا أن تتمّ «التضحية» بنتنياهو أو إرغامه على القبول بالخطوط الأميركية لإدارة هذه الحرب العدوانية.
وفي كلا الحالتين ستحتاج الولايات المتحدة، وستعمل من أجل أن يصدّق المجتمع الإسرائيلي أوّلاً، وقبل نُخبه، بأنّ دولتهم الكولونيالية لم تهزم، وأنّها «حقّقت» لنفسها الأمن، وقد تعود لكي تصبح جزءاً من الإقليم الأميركي، وقادرة على التعايش والاندماج فيه إن هي قبلت بحلّ سياسي يُقنع الفلسطينيين بأنّهم حقّقوا من خلال هذه الحرب شيئاً كان يبدو مستحيلاً قبل اندلاعها.
أي أنّ الولايات المتحدة لا تبحث عن حلّ، وإنّما تبحث عن ما سيبدو وكأنّه حلّ، وعمّا يمكن أن يصدّقه الإسرائيليون، ولو مؤقّتاً، وما يصدّقه العرب ولو كملاذٍ سريع، وما يصدّقه، وما سيصدّقه بعض الفلسطينيين لأنّهم لا يملكون سوى أن يصدّقوا!