لا شك بأن اجتياح مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، أو إطلاق العملية العسكرية البرية الإسرائيلية وفق مصطلح الحرب الإسرائيلية، هو أمر كارثي، بل ربما يعادل وحده إطلاق القنبلة النووية، على التجمع المدني، حيث تكتظ المدينة بمساحتها الضيقة بسكانها والنازحين إليها من شمال القطاع، وبما يعني سقوط الضحايا من المدنيين بالآلاف يومياً، بعد أن ظلوا يسقطون منذ ستة أشهر في كل مدن ومخيمات القطاع يومياً بالمئات، لكن ذلك الأمر ليس هو فقط الأمر الخطير الذي تقدم عليه أو تمارسه إسرائيل، فهناك ما لا يقل خطورة عن اجتياح رفح بحرب برية إسرائيلية، ولهذا لا بد من الانتباه والتحذير، ومواصلة الضغط الميداني والسياسي، على كل المستويات، بما في ذلك الاحتجاجات الشعبية العالمية، حتى لا يتم فقط وقف الحرب فعلياً ورسمياً، بل ومواصلة الضغط على إسرائيل من أجل تبديد كل أهدافها الخطيرة للغاية من حربها على قطاع غزة، والتي تجاوزت كثيراً ما أعلنته، أو ما تواصل إعلانه من تحطيم "حماس" سياسياً وعسكرياً، وتجريد القطاع من السلاح.
والعملية البرية الإسرائيلية التي هددت بها حكومة الحرب طويلاً، كان واضحاً أن تلك التهديدات هي تكتيكية أكثر منها فعلية، ولعل ما كشفه قبل أيام موشية يعلون وزير الحرب الليكودي السابق، من أن إسرائيل سحبت معظم ألويتها من قطاع غزة، ولم يبق سوى أربعة ألوية، وذلك بسبب تركيزها على جبهتي الضفة الفلسطينية وجنوب لبنان، على الأقل خلال شهر رمضان، ما يؤكد ما كنا نقوله بأن ذلك التهديد في ظل المعارضة الدولية الكبيرة جداً لذلك الاجتياح، هو ضغط على المفاوض الحمساوي في الدوحة، لتمرير شروط نتنياهو فيما يخص صفقة التبادل، وعلى أي حال فإن اجتياح رفح عسكرياً، بحجة أنها المعقل الأخير لحماس، لا يكون كارثياً فقط على الجانب الفلسطيني، من زاوية عدد الضحايا المتوقع سقوطهم يومياً، بل سيشمل إسرائيل أيضاً، ولن يقتصر ذلك على التنديد العالمي الشعبي والرسمي بها، بل ربما يتجاوز ذلك.
فلو تخيلنا إسرائيل وقد أقدمت فعلاً على تنفيذ العملية البرية على رفح، كما فعلت مع مدينتي غزة وخان يونس، فإن رد الفعل الميداني أولاً سيكون أعنف، أي أن "حماس" حينها وكل فصائل المقاومة، ستلقي بكل ما لديها من قوة نارية في وجه ذلك الاجتياح، ولن تقوم بتنظيم الرد كما فعلت سابقاً، بهدف جر القوات الإسرائيلية إلى حرب العصابات، لأن هذا الفصل من الحرب سيكون فصل كسر العظم، وهكذا فإن القتلى من الجنود الإسرائيليين سيكون أكثر، كما أن "حماس" حين تحشر في الزاوية ميدانياً، فقد تعلن يومياً عن مقتل العشرات من المحتجزين الإسرائيليين، أي أن "حماس" ستتبع خطة شمشون الجبار، "عليّ وعلى أعدائي"، وإسرائيل تعلم جيداً، بأن المحتجزين من مواطنيها هم دروع بشرية لمقاتلي "حماس" مع بداية وخلال الحرب، وسيكونون دروعا بشرية لقادتها من الصف الأول، أما ميدانيا، أي في إطار الجبهات المحيطة بجبهة الحرب الإسرائيلية على غزة، فإنه من المؤكد أن ترتفع وتيرتها، ولا أحد يعلم لأي حد.
والجبهة الأهم هنا، هي جبهة إسرائيل مع جنوب لبنان، حيث أن أقل ما يمكن أن يفعله حزب الله، وهو يرى حجم الضحايا في رفح، ومع التنديد العالمي الذي سيكون غير مسبوق، هو أن يلقي بمئات الصواريخ على إسرائيل، وسيقوم فوراً بتوسيع جبهة وقواعد الاشتباك مع إسرائيل، ولا شك أن ذلك سيترافق مع إطلاق مئات المسيّرات من العراق، وعشرات الصواريخ والمسيرات من اليمن، وقد تترافق كل تلك الردود معاً، بحيث تصبح إسرائيل في مواجهة الجحيم من النيران، وربما لا يقتصر الأمر على هذه الجبهات مع جبهة الضفة، التي لم تلق بكل أسرارها بعد، وهناك العبوات البشرية، أي منفذو العمليات.
وكذلك يمكن لما نجحت أميركا في تجنبه خلال ستة أشهر من عدم توسيع دائرة الحرب أن يتبدد، وحتى مع احتمال دخول إيران مباشرة، أن يبقى كذلك، خاصة مع ما هو متوقع من رد فعل عالمي، بما فيه رد فعل أميركا نفسها، بعد أن نفد صبر البيت الأبيض على نتنياهو، ورفضه الحرب على رفح، أي أنه بات غير متوقع أن تسارع أميركا للزج بقواتها من اجل "حماية" إسرائيل إذا ما فتحت عليها الجبهات الأخرى تزامناً مع حربها البرية على رفح، وذلك بعد أن طال أمد الحرب، وصولاً إلى امتناع واشنطن عن التصويت ضد مشروع قرار مجلس الأمن المطالب بوقفها فوراً، وبعد أن خبرت تلك الجبهات قواعد الاشتباك هي أيضاً، فيما يبرر التصعيد الإسرائيلي في رفح، التصعيد الجماعي في كل تلك الجبهات، وأهمها جبهة حزب الله كما أسلفنا.
هكذا يمكن القول بأن إسرائيل ما دام بنيامين نتنياهو رئيساً لوزرائها، مستنداً إلى وجود كل من ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ستظل ترفض وقف الحرب، وأبعد ما يمكن أن تقبله هو وقف مؤقت، ضمن صفقة التبادل، لكن دون شروط "حماس" الخاصة أولاً بأن يحتوي الوقف المؤقت على احتمال الوقف الدائم لإطلاق النار، وثانياً عودة النازحين إلى غزة وشمال القطاع، أي أن مفاوضات الصفقة شهدت، بل وكشفت جوهر موقفي الطرفين، فـ "حماس"، أرادت وقف الحرب عند حدود رفح، حتى تبقي على قيادتها العسكرية، وعلى ترجيح عودتها هي وليس أحد غيرها لحكم قطاع غزة، كذلك أرادت أن تعود الأمور كما كانت قبل الحرب، وتعتبر نجاحها في تحرير مئات الأسرى هو انتصارها، رغم أنه جاء بثمن باهظ جداً، وهو سقوط أكثر من مئة ألف بين شهيد وجريح، وتدمير نصف عقارات قطاع غزة، وكل هذا الدمار الذي يحتاج عقوداً لترميمه، فيما إسرائيل، أرادت وقفاً مؤقتاً، هي أصلاً بحاجة له، لإراحة جنودها، وتجنب التصعيد في رمضان، مقابل تحرير محتجزيها، الذين يقفون دروعاً بشرية تحول دون قدرتها على إلحاق الأذى بالقيادة العسكرية الأولى لـ "حماس".
لكن وحيث أنه ميدانياً لم يحقق أحد الطرفين نصراً حاسماً وسريعاً، فإن عض الأصابع بينهما، أوقف أو حتى أفشل المحاولة الأميركية بالسعي لصفقة التبادل، المهمة لبايدن، وبعد تصويت مجلس الأمن يوم الاثنين الماضي، فإن نسبة نجاح الصفقة باتت متدنية للغاية، وقد أظهر رد "حماس" الفوري على ما سُمي بالمقترح الأميركي الوسط فيما يخص معيار تبادل الأسرى، أو نسبتهم ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وذلك من خلال تأكيدها على ما قدمته يوم 14 آذار الحالي، ما نرجحه من تراجع الاهتمام بعقد تلك الصفقة، التي كان يمكن لها أن تتحول مع وقف لإطلاق النار لمدة شهر ونصف، إلى أجندة حل تمتد على ثلاث مراحل، بما يعني الانتقال من حالة الحرب إلى حالة الهدنة.
هكذا فإن بقاء الأمور هكذا، أي مع خفض لوتيرة الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي ظل تراجع الضغط على إسرائيل، الخارجي على نحو خاص، ذلك أن الضغط الداخلي لن يتوقف عند تظاهر أهالي المحتجزين ومطالبتهم بعقد صفقة التبادل، ومع استحقاقات أخرى، أخطرها هو تجنيد الحريديم في الجيش، وكذلك تهديد بيني غانتس بالانسحاب من الحكومة، بعد انسحاب جدعون ساعر، من الشراكة الحزبية مع غانتس ومن حكومة الطوارئ، بقاء الأمور يعني بأن الأمر لا يقل خطورة عن اجتياح رفح، لأن بقاء الأمر هكذا سنوات قادمة، يعني استمرار سقوط الضحايا الفلسطينيين وزيادة الدمار، وأن تظل رفح مكدسة بالنازحين، ويعني بأن إسرائيل حققت نصف أهدافها المتمثلة بإفراغ قطاع غزة من سكانه، وهي هجرت حتى الآن مليون مواطن من شمال القطاع ومدينة غزة، إلى جنوب القطاع، أي أنها أنشأت منطقة عازلة، هي النصف الشمالي لقطاع غزة، ووجودها العسكري ميدانياً، يمكنه أن يحقق لها تنفيذ مشاريع إعادة الاستيطان لتك المنطقة، وما يؤكد ذلك إصرار إسرائيل على عدم عودة النازحين للشمال، مع منع دخول المساعدات الإغاثية لتلك المنطقة، وهكذا فإن إبقاء إسرائيل على قطاع غزة وفق هذه الحالة الحالية، وهي حالة أصعب كثيراً من الحصار الذي تواصل خلال 17 سنة مضت، هو أمر أسوأ من اجتياح رفح، لأن اجتياح رفح أيضاً، سيضع بهذا الشكل أو ذلك حداً أو نهاية لتلك الحرب، وسيضع إسرائيل أمام استحقاق تحديد مستقبل القطاع، بما يحتمل مواجهة دول أخرى، هي دول الجوار القريبة، أولاً أي مصر والأردن، وثانياً دول أخرى.