مثل أي مواطن فلسطيني، شاركتُ في مئات الاعتصامات والتظاهرات والمسيرات الشعبية على مدى سنوات طويلة، وكنتُ في كل مرة أنتبه إلى أعداد المشاركين، ونوعياتهم، وخلفياتهم الثقافية وانتماءاتهم الحزبية، وكان يمكن ملاحظة ذلك من خلال معرفة العديد من المشاركين بشكل شخصي (ومعرفة الغائبين أيضا)، ومن خلال المظهر والأزياء والهتافات والشعارات واليافطات المحمولة وأسباب خروج التظاهرة، واتجاهات سيرها.. وأحاول استخلاص العبر وفهم الظاهرة من ناحية سيسيولوجية وسياسية وثقافية (سأنشر قريبا دراسة عن هذا الموضوع).. المهم ما يعنيني هنا، وما أود التركيز عليه موضوع الهتافات.
ومن خلال خبرتي المتواضعة يمكنني القول وبثقة، إن الهتافات لا تعكس بالضرورة رأي واتجاهات المشاركين في التظاهرة نفسها، خاصة حينما تكون حاشدة وبأعداد كبيرة.. فما يحدث غالبا هو إمساك شخص ما بالميكروفون والبدء بالهتاف، ليردد من هم حوله في الدائرة الضيقة نفس الهتاف، وفي حالات نادرة جدا يردد معه جميع المشاركين؛ أي حينما يكون الهتاف جامعا وتوحيديا ومتفقا عليه (مثل هتافات الوحدة الوطنية، أو «بالروح بالدم نفديك يا فلسطين»..).
لن أتوسع هنا بالحديث عن «الهتافات»، وسأكتفي بالإشارة إلى أنها في الغالب موجهة ويُراد منها إيصال رسائل معينة، وطبعا بحسب الشخص أو المجموعة الصغيرة التي تهتف.. وما يهمنا هنا هتاف «مشان الله يا غزة يالله».
في باحات المسجد الأقصى، وبعد صلاة الجمعة من شهر رمضان، حيث الأعداد الغفيرة من المصلين، وبسبب غياب أي سلطة أمنية هناك، تقوم بعض الاتجاهات السياسية والحزبية باستغلال قدسية المكان وتجييره لصالح هتافها السياسي، ليندمج الشعار الحزبي مع طهارة المكان ويكتسب شرعيته. وهنا أول رسالة سياسية، ليقول مطلقوه أن جماهير القدس ورواد الأقصى يقولون كذا، ويريدون كذا.. يحبون فلان، ويعادون علان.. وهنا برز هتاف «مشان الله يا غزة يالله»، وسرعان ما انتقل إلى التظاهرات التي كانت تجري في الضفة الغربية.
وفي أيار 2021، وبعد أن شهدت القدس حراكا شعبيا سلميا وبوادر هبة جماهيرية سرعان ما انتقلت إلى عموم الضفة الغربية، وكانت مرشحة ومهيأة أن تتحول إلى انتفاضة، وفي هذه اللحظة بالذات أطلقت مجموعات من مؤيدي وأبناء «حماس» هتاف «مشان الله يا غزة يالله».. فكانت الاستجابة بإطلاق الصواريخ من غزة، لتتحول بوادر الانتفاضة في الضفة إلى حرب عدوانية على غزة.
ماذا يعني هتاف «مشان الله يا غزة يالله»؟ يعني أن جماهير الضفة تستنجد بغزة، والتي ستنجدها بالصواريخ.. وهنا قد تبدو الصورة مثالية، وتكاملا في الأدوار النضالية.. لكن هذا غير صحيح، ليس تشكيكا بنوايا المستغيث والمنقذ، بل لأنه يعني أنَّ مطلقي الهتاف لا يريدون تقديم فعل حقيقي، وبدل ذلك يحيلون الأمر إلى غيرهم.
لماذا لا تستنجد القدس بالخليل؟ أو تستنجد نابلس بجنين؟ لماذا غزة بالذات؟
بعيدا عن الكلام الإنشائي بأننا شعب واحد وموحد.. فهذا مؤكد، وحيث بالفعل كلما تعرضت مدينة أو مخيم في الضفة ستجد عونها وسندها في المناطق المجاورة، فالمجتمع كله حاضنة دافئة للمقاومين بصرف النظر عن التقسيمات المناطقية والانتماءات الفصائلية.. لكنّ في الهتاف رسائل سياسية مشفرة.. مفادها أن العون الحقيقي والوحيد للضفة فقط في غزة، وبمعنى أدق لدى «حماس»، لأنها وحدها من يمثل ويجسد المقاومة.. وهذه الرسالة الضمنية الثانية للهتاف.
الرسالة الثالثة للهتاف مفادها أن غزة جاهزة دوما للمشاركة والإسناد، وبمعنى أدق وأصدق جاهزة للتضحية.. والتضحية هنا ستكون دائما باهظة الثمن، وتكلف دماء وأرواحا وممتلكات.. لأن الهتاف يعني بالضرورة استدعاءً للحرب، ويبدو أن العقل الباطني لدى الكثيرين قد تبرمج على استسهال تضحيات غزة، وكأنَّ أهل غزة منذورون للحروب، ويجوز التضحية بهم، فهم ليسوا كسائر البشر، يحبون الشهادة (الموت)، ومستعدون للتحمل ودفع الأكلاف والأثمان مهما بلغت.. وهذه الفلسفة تجدها في الخطابات الإنشائية وقصائد النثر وتحليلات المثقفين المشتبكين، بالذات في رام الله وعمّان، ببساطة ووضوح ستجدها لدى أغلب من هم خارج غزة.. وهي فلسفة غير أخلاقية، ولا إنسانية.
والدليل على أنها فلسفة مزايدة وتنظير أنّ الجماهير (في الأردن والضفة) التي طالما هتفت «مشان الله يا غزة يالله» عندما وقعت غزة في محنتها وتعرضت لأبشع حملة إبادة.. تخلت عنها، وخذلتها، ولا أقصد بالخذلان هو الامتناع عن التظاهرات وأشكال التضامن الأخرى، بل المقصود أن هؤلاء لم يقدموا لغزة سوى أنهم رأوا صور المقاومين وهم يتصدون للدبابات، واكتفوا بها.. ولم يروا معاناة الناس، وبؤسهم، ونزوحهم، وجوعهم، وخوفهم، وأطفالهم المشردين، وجثثهم الممزقة، وبيوتهم المهدمة، ومستقبلهم الذي ضاع.. ما زالوا يعتقدون أن المقاومين وحدهم من يضحي.. ووحدهم الأبطال.. وبالتالي هم يتظاهرون نصرة للمقاومة، لا نصرة للشعب المكلوم.. تأييدا للمقاتلين وليس للناس المدنيين.. وهكذا نزعوا صفة الضحية عن الشعب، كما نزعوا عنه صفة البطولة.. انظر إلى هتافات المتظاهرين في عمّان ورام الله، وإلى المنشورات المتداولة على جروبات الواتس أب وغيرها ستجد كل ما يؤيد كلامي.
(سأرد على ما يجول في عقلك الباطن): صحيح أن موقف السلطة الوطنية، و»فتح» لم يرتقِ للمستوى المطلوب، وكان مخيبا للآمال، ولا يتناسب مع مستوى الحدث، لكنه على الأقل متناغم مع موقفها الداعي لرفض الحرب، والمطالبة بإيقاف العدوان منذ اليوم الأول، لإدراكها أن هذه الحرب لا قِبل للشعب الفلسطيني بها، وفوق طاقتهم، وقد تؤدي بهم إلى النهاية المدوية، لأن المقاومة والنضال ضد الاحتلال تختلف بأدواتها وأساليبها وخطابها عنها في زمن الحرب وفي ظل عدوان شرس بهذا الحجم.. ومع ذلك كان عليها أن تفعل الكثير، ولا مبرر لتقصيرها.
لكن حَمَلة هتاف «مشان الله يا غزة يالله»، من الإخوان المسلمين وغيرهم، هم أول من خذل غزة، وكانوا راضين ومتقبلين لكل خسائرها الباهظة.. ولأن الإخوان أكبر وأقوى جماعة سياسية منظمة في الأردن، كان ممكنا لهم فعل الكثير، بشكل أكثر فعالية وجدوى، لكنهم اكتفوا بنفس الدور الذي مارسوه أثناء ثورات الربيع العربي: امتصاص نقمة الشارع، وتحييد النظام، إضافة إلى الدعاية الحزبية، أي استغلال مأساة غزة لزيادة شعبية الإخوان.
أما جماعات الإسلام الجهادي، من «داعش» و»النصرة» و»القاعدة» وأنصار بيت المقدس وأنصار الشريعة وجند الشام وطالبان و»بوكو حرام» والعشرات غيرهم ممن لم يتركوا ساحة «للجهاد» إلا وشاركوا فيها.. فجأة، حينما تعلق الأمر بفلسطين جميعهم اختفوا!!
والحقيقة لا مفاجأة في الموضوع.