ها إن شهر رمضان قد أوشك على الانتهاء، دون أن يتم الاتفاق على صفقة تبادل الأسرى بين «حماس» وإسرائيل، الأمر الذي كان يسعى إليه البيت الأبيض، خشية أن يتسع إطار الحرب، وتخرج عن السيطرة وتتحول إلى حرب إقليمية طاحنة، ودون أن ينفذ بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية، تهديده باجتياح رفح، ذلك الاجتياح الذي كان على الأرجح في ظل الرفض العالمي سيؤدي إلى الحرب الإقليمية، نظراً لما ينطوي عليه من ارتكاب إسرائيل لجريمة الحرب بشكل جلي وواضح وصريح وصادم.
ولا شك أن اجتياح رفح خلال شهر رمضان، كان سيضاعف من الرد على ذلك الاجتياح وعلى كل المستويات، المستوى الأول هو المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة التي ستدخل حينها حرب كسر العظم، كذلك ستشاركها المستوى ذاته فصائل المقاومة في الضفة الفلسطينية، فيما كانت ستشتعل جبهة القدس أيضاً، أما المستوى الثاني فهو جبهات الإسناد العربية، في جنوب لبنان واليمن والعراق، والتي كانت ستجدها فرصة لتوسيع قواعد الاشتباك وتعميقها، بشكل ربما تدخل فيه تلك الجبهات الحرب تماماً، أما المستوى الثالث فهو السياسي العربي والدولي، حيث كان متوقعاً أن تقدم عشرات الدول على اتخاذ إجراءات غاضبة من مثل وقف التبادل التجاري وحتى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، إضافة بالطبع إلى اللجوء لمجلس الأمن فوراً.
أما وقد مر شهر رمضان «على خير»، ولكن دون رفع وتيرة الحرب، أي دون أن تندلع المواجهات الحادة في القدس والضفة، كما كان يحدث كل رمضان في الأعوام السابقة على الأقل، ولا انخفاضها ولا حتى زيادة حجم المساعدات الإغاثية التي تدخل قطاع غزة، بل إن إسرائيل واصلت رغم أنف الجميع بمن فيهم الأميركيون إغلاق معبر رفح أمام آلاف الشاحنات، في الوقت الذي لا تتورع عن قتل العشرات ممن يلتقطون مواد الإغاثة الساقطة من الجو، ولا يشير قتل إسرائيل لكادر المطبخ الدولي إلى تصعيد فاشي إسرائيلي وحسب، بل يشير كذلك إلى إصرارها على إفراغ شمال قطاع غزة على الأقل من السكان تماماً، فهل يعني كل ذلك، بأن تهديد مجرمي الحرب الإسرائيليين باجتياح رفح سيقع في اليوم التالي على انقضاء شهر رمضان؟ على الأغلب الجواب هو لا، وذلك لأنه لم يكن شهر رمضان فقط هو الحائل الوحيد لتنفيذ ذلك التهديد.
فهناك أسباب عديدة تمنع أو تعيق اجتياح رفح، كما أسلفنا من قبل، منها إنهاك الجيش نفسه، كذلك الضغط الداخلي، الناجم عن أكثر من عامل، من ذلك الخلافات التكتيكية بين أعضاء كابينت الحرب، كذلك الخلافات الناجمة عن استحقاق تمديد التجميد الخاص بتجنيد الحريديم من عدمه، ومن ثم الرفض الدولي خاصة الأميركي منه، حيث لا يمكن لإسرائيل أن تفعل ذلك دون التغطية الأميركية، ولا بأي شكل منذ أن أوصى ديفيد بن غوريون بعدم شن حرب دون دعم دولة عظمى، وبعد ذلك احتمالات رد فعل أعلى من الرفض اللفظي، من قبل بعض الدول مثل الأردن ومصر وغيرهما، وفي حال سقوط الضحايا بالآلاف يومياً، وحيث أن نتنياهو نفسه يقدر بأن العملية في رفح تحتاج من شهر إلى شهر ونصف، فإنه يمكن التوقع بأن تنقلب الدنيا خلال تلك الفترة في وجه إسرائيل، وحقيقة الأمر، فإن كثيراً من المراقبين يستغربون كيف أن «دولة إسرائيل العميقة» أي مؤسسات الدولة ما زالت تصمت إزاء مغامرة التطرف السياسي، الذي يغامر بمستقبل إسرائيل للحفاظ على موقعه في الحكم.
هكذا يمكن القول ببساطة بأن رفح باتت عقدة الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ ستة أشهر، وطالما أن إسرائيل مُنعت من اجتياح رفح، فإنه من شبه المستحيل أن يوافق كابينت الحرب على وقف الحرب، رسمياً على الأقل، فيما أن مستقبل الحرب وربما المنطقة سيتقرر على ضوء نتيجة ذلك الاجتياح في حال تم تنفيذه، وحتى الآن فإنه من غير المتوقع أن يجري اجتياح رفح على ضوء الموانع التي سردناها أعلاه، قريباً، ووفق تقديرات الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه، التي قام بإبلاغها إلى مصر، فإن مثل ذلك الاجتياح وحتى لو لم يتم الاتفاق على صفقة التبادل كما هو مرجح، وعلى ضوء رفض الأميركيين ما قدمه الإسرائيليون من»خطة» تضمن تجنيب المدنيين في رفح ويلات ذلك الاجتياح، فإن العملية البرية الإسرائيلية لن تكون قبل منتصف أيار القادم.
على الأغلب فإنه لا وقفٌ للحرب ولا إطلاق للمحتجزين، ولا حسمٌ رسميٌ للمواجهة سيجري قريباً، ولذا ستظل عقدة رفح ماثلة، فيما سيكون هذا العام عاماً رخواً سياسياً، لن يجري حسم أمر فيه، وذلك ارتباطاً أيضاً بأنه سيكون عام انتخابات أميركية، حيث أنه بات من شبه المؤكد تماماً أن تجري المنافسة بين الرئيس الحالي جو بايدن والرئيس السابق دونالد ترامب.
لكن وإذا كانت الحرب قد تحولت في الشمال والوسط وحتى في خان يونس إلى حرب عصابات، فإنها ستكون في رفح على تخومها، حيث قد تفرض إسرائيل حصاراً على رفح ومحيطها، وهي إن كانت اليوم تفصل عبر ممر نتساريم شمال القطاع عن وسطه وجنوبه، فإنها قد تقوم بعزل رفح، فيما تدير عسكرياً شمال ووسط القطاع وحتى خان يونس، بما يعني إعادة احتلال لمعظم القطاع فعلياً، وتجعل من واقع احتلالها _على الأقل_ ورقة مساومة، كما تفعل اليوم برفضها عودة النازحين من الجنوب إلى الشمال، رغم أن هذا الرفض يؤكد مخاوف الجميع من هدف إسرائيل المتمثل بالتهجير، وستَّتبع إسرائيل سياسة الملاحقة كما الحال في جنين وغيرها من مدن الضفة الفلسطينية، لكن الأمور لن تجري باتجاه واحد، فإن هدأ إيقاع الحرب وبقي هكذا، على أنه معتاد، كما حال وتيرة «كاسر الأمواج» في الضفة، فإن المقاومة، ستبدأ حرب عصابات ومطاردات لجيش الاحتلال، بينما كل الجهد الإسرائيلي على صعيد التطبيع قد بات وراء ظهرها.
وكما اعتاد الزعيم التاريخي لفلسطين الراحل أبو عمار على القول: من جنين غراد إلى رفح غراد، وكأنه كان يقرأ المستقبل بعد عشرين سنة من رحيله، وقد كان ياسر عرفات يقصد بقوله ذاك الإشارة إلى لينينغراد، المدينة الروسية التي كان اسمها سان بطرسبيرغ في عهد القياصرة، ثم حملت اسم قائد الثورة البلشفية فلاديمير ايليتش لينين، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان صمودها الأسطوري، والذي دفعت خلاله ملايين الضحايا في مواجهة جيش الاحتلال النازي الألماني، سبباً في نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا ومعها دول المحور وانتصار الحلفاء بمن فيهم الاتحاد السوفياتي، وكانت مشاركة السوفييت الحاسمة في الحرب إضافة لحرب التحرير التي خاضتها الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا سببا في تشكل المعسكر الاشتراكي الذي منع أولاً الدول الامبريالية : أميركا، بريطانيا وفرنسا من إعادة توزيع العالم كمستعمرات فيما بينها، وتالياً في كبح جماح الغرب الامبريالي تجاه العالم الثالث، بل وساعد المعسكر الاشتراكي شعوب العالم الثالث في التحرر من الاستعمار الغربي وفي حروب الاستقلال في قارات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
فهل يكون قدر قطاع غزة، وبالتحديد رفح، أن تفتح الباب لحرب إقليمية_عالمية طاحنة، تعيد خلط كل أوراق الشرق الأوسط، المتقاطعة أصلاً منذ ثلاثة عقود، أي منذ تفتيت الصومال، واحتلال العراق، ومن ثم مروراً بالربيع العربي، إلي فتح أبواب اليمن وليبيا وسورية، أم أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ستكون آخر حروب تلك المنطقة، بحيث ينجح الإقليم والعالم الذي يشهد إرهاصات ظهور نظام عالمي جديد متوازن بين عدة أقطاب، الحكم بينها القانون الدولي والقضاء الدولي، إضافة للمنظمات الدولية، التي تمثل المجتمع الدولي بكليته، في وضع حد لوجود إسرائيل فوق الآخرين، وآخر احتلال، والدولة فوق القانون الدولي، الدولة التي يحق لها ما لا يحق لغيرها، من امتلاك للسلاح النووي ومن التفوق العسكري على كل الشرق الأوسط مجتمعاً، وفي وقف حرب الإبادة وفي محاسبتها على جرائم الحرب، ومن ثم في منع تحولها لدولة فاشية تهدد كل دول وشعوب الشرق الأوسط.
كل هذا يؤكد بأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لم تجر في منطقة نائية أو معزولة، بل إنها تجري في مركز الصراع الإقليمي وحتى الكوني، المرتبط بطيعة النظامين، العالمي ما بين نظام تقوده أميركا منفردة ونظام متعدد الأقطاب، والإقليمي، ما بين نظام تهيمن عليه إسرائيل، وآخر تتوافق فيه القوى الإقليمية على مصالحها المشتركة.