من لا يرى أنّ الشرق الأوسط إيّاه، أيّ الشرق الأوسط الأميركي الإسرائيلي الذي تمّ توصيفه بـ«الجديد»، لم يعد جديداً، بل بات قديماً، وأنّ ثمة «شرق أوسط جديداً» فعلاً يولد من رحم ذلك «الجديد» الأميركي الصهيوني.
من لا يرى أنّ كلّ المؤشّرات توحي بهذه الولادة الجديدة سيكتشف مع الوقت أنّه لم يقرأ معادلة الصراع جيداً في هذا الإقليم بعد 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، وبعد كلّ هذا المخاض الكبير والعسير.
ومن لا يرى هذا المخاض سيدفع ثمناً غالياً لأنّه ــ ليس فقط لم يقرأ جيداً هذه المعادلة ــ بل إنّه سيندم يوم لا ينفعه الندم.
تعالوا نحاول قراءة المشهد في الإقليم في هذه اللحظة، كي نعود من هذا المشهد إلى «طوفان الأقصى»، وما نتج على مدى أكثر من نصف سنة كاملة من القتال وحتى آخر ما تطوّرت ووصلت إليه معطيات الصراع.
نقف اليوم أمام الوقائع الآتية:
بعد الضربة الإيرانية لإسرائيل، وبصرف النظر عن أيّ تفاوت أو خلاف واختلاف عن مدى ما مثّلته وأحدثته في واقع الإقليم فقد بات من نتائجها المباشرة أن إسرائيل حسمت أمرها بالردّ على تلك الضربة.
وبصرف النظر هنا، أيضاً، عن حجم ونوعية وطبيعة الردّ الإسرائيلي عليها فإنّ الولايات المتحدة، و»الغرب»، وبعض دول الإقليم قد «تفهّمت» ضرورة الردّ الإسرائيلي، وربّما وافقت وتوافقت عليه.
إيران أعلنت بصورة حاسمة وجازمة أنّها ستردّ على الردّ الإسرائيلي لا محالة. ليس هذا فقط، وإنّما ستردّ بصورةٍ أكبر على هذا الردّ بمقياسٍ نوعي مختلف قد يصل إلى عشرة أمثال ما كانت عليه الضربة الإيرانية.
والآن تعالوا نتأمّل المشهد المحتمل.
إذا كانت إسرائيل لم تتحمّل عدم الردّ على الضربة الإيرانية التي قالت أو ادّعت أنّها «فاشلة»، أو تمّ إفشالها، وشارك في هذا الإفشال تحالف «غربي» كامل وشامل، فهل ستمتنع عن الردّ على الردّ الذي تتحدّث عنه إيران في ردّها على الردّ الإسرائيلي؟
العقل والمنطق والواقع يقول إنّنا سنصبح أمام هجمات متبادلة حتماً، وإنّ حرب الهجمات المتبادلة هذه ستندلع حتماً، وإنّ السيطرة عليها لكي لا ينفجر الإقليم كلّه، ويتحوّل إلى كتلةٍ من اللهب سيكون الشغل الشاغل لـ»الغرب» كلّه، والإقليم كلّه.
وعندما نتأمّل في التهديدات الإيرانية من زاوية أنّها لن تنتظر لكيّ تردّ على الردّ الإسرائيلي، وأنّها ــ أيّ إيران ــ قد يكون ردّها فورياً ومباشراً يصبح الإقليم على حافّة حربٍ مدمّرة إذا لم تحدث معجزة، وهذه المعجزة لا بدّ أن تكون أميركية!
أنّى لأميركا أن يتوفّر لها ذلك وقد كان وضعها، وما زال مأزوماً جرّاء ما لحق بها من عارٍ بعد تأييدها لحرب الإبادة الجماعية التي اقترفتها، وما زالت تقترفها دولة الاحتلال ضدّ شعبنا في قطاع غزّة؟
أقصد أنّ مهمّة الاحتواء والضبط لكيّ تحول الولايات المتحدة دون الانفجار الكبير لن تكون سهلة ولا حتى مجرّد صعبة!
إذا كانت التهديدات الإيرانية من حيث حجمها وسرعتها جادّة وحقيقية فلن ينفع إسرائيل لتفادي الردّ الإيراني أن تكون ضربتها استعراضية أو شكلية.
من هنا فإنّ إسرائيل أصبحت، وستصبح أمام «مأزقٍ» جديد ــ كما ذكرنا في المقال السابق ـ وقد لا تملك حلّاً مناسباً له.
وأمّا إذا تمكّنت الولايات المتحدة بما يشبه المعجزة من إيقاف هذه الهجمات المتبادلة، بكلّ ما ستنطوي عليه من تدمير متبادل فإنّها باتت مُلزمة بالضغط الشديد باتجاه «إجبار» كلّ أطراف الصراع في كامل الإقليم على الجلوس إلى طاولة مفاوضات، وقد تكون الصيغة المطلوبة في هذه الحالة هي صيغة المؤتمر الدولي الذي تشارك فيه، بالإضافة إلى الدول المؤثّرة في كامل الإقليم كلّ دول «الغرب» و»الشرق»، والدول الصاعدة، وقد تكون القضية الفلسطينية في هذه الحالة هي مركز الاهتمام الأوّل في مثل هذا المؤتمر.
وبهذا المعنى فإنّهم جميعاً لن يوافقوا على أقلّ من حلّ حقيقي للقضية الفلسطينية من كافّة جوانبها.
لن تستطيع الولايات المتحدة أن تتهرّب أكثر ممّا تهرّبت حتى الآن من معالجة جوهر الصراع في هذا الإقليم، والذي كان، ولا يزال، وسيظلّ القضية الفلسطينية من جوانبها كافة.
ولن تستطيع الولايات المتحدة، أيضاً، أن تحلّ الصراع من كافّة جوانبه في كامل الإقليم دون الاعتراف بين الدول الإقليمية كافّة في كامل الإقليم بالمصالح الإقليمية لكل دولة مؤثّرة، وخاصة إيران التي تكون قد فرضت نفسها على الإقليم بحكم نتائج الصراع القائم، وحرب تبادل الهجمات التي باتت متوقّعة بشكلٍ كبير.
هذا المتغيّر يعني من حيث الجوهر أنّ الردع الإيراني قد حقّق التوازن المطلوب للانتقال من مرحلة السطوة الإسرائيلية، والهيمنة الأميركية في ظلّ اختلال ميزان القوى، الذي كرّس السطوة الإسرائيلية إلى مرحلة الاعتراف الجديد بالتوازن الجديد الذي يتيح علاقات إقليمية جديدة.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كلّه ما كتبنا عنه مراراً وتكراراً من متغيّرات هائلة في التوازن الدولي بعد فشل الحرب «الغربية» على روسيا، وبعد الإخفاق الإستراتيجي في تقويض الدولة الروسية، وفي إعاقة التمدّد الاقتصادي للصين، وبعد الإحباط الكبير الذي أصاب «الغرب» بسبب الفشل في تحويل تايوان إلى أوكرانيا جديدة.. إذا أضفنا ذلك كلّه إلى المتغيّرات التي أحدثتها التطوّرات في إقليم الشرق الأوسط بعد 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2003، وبعد الضربة الإيرانية نستطيع أن نرى كيف أن الشرق الأوسط «الجديد» الذي رسمته الولايات المتحدة منذ سنين لهذا الإقليم وجاءت أحداث السابع من أكتوبر لتشقّ الطريق واسعاً نحو وجهة أخرى، مغايرة تماماً للشرق الأوسط الذي خططوا له، والذي بذل «الغرب» قصارى جهده من أجل تكريسه، و»تفانى» نتنياهو في التنظير له، وشرح أبعاده وخرائطه على الهواء مباشرة، بما في ذلك «شروحاته» المتلفزة في الأمم المتحدة، بعد أن أغدق جو بايدن عليه بالقرارات التي صدرت عن «قمة العشرين» في ذلك الوقت.
وسواء كنّا مع حركة حماس أو لم نكن في مبادرتها التاريخية في «طوفان الأقصى»، وسواء أرادت أن تصل إلى ما وصلت إليه الأمور، وسواء إذا كانت قد بادرت إلى ذلك بوعيٍ تام لهذه التداعيات التي ترتّبت على تلك المبادرة بالهجوم على مستوطنات «غلاف غزّة» في ذلك اليوم، أو دون مثل هذا الوعي، أو دون مثل هذا الوعي التفصيلي لتلك التداعيات، فإنّ الصراع لم يكن ليتدحرج إلى النقطة التي وصل إليها اليوم لولا تلك المبادرة التاريخية.
لا أحد يمكنه الجزم بأنّ إيران قد دفعت «حماس» نحو هذه المبادرة، أو أنّ «حماس» أرادت المبادرة لكيّ تصل الأمور إلى هذه النقطة بالذات، لكن المؤكّد أنّ الإجابة عن هذا السؤال قد فقدت أهميّتها طالما أنّنا وصلنا اليوم إليها.
وربّما يكون التوازن الجديد قد كان موجوداً بالفعل قبل «طوفان الأقصى» لأنّ إيران على ما يبدو تمتلك من مكامن القوّة ما يوحي بذلك، طالما نتحدّث عن نوعٍ من التوازن بينها وإسرائيل، وطالما تحدّثنا عن توازن ينهي عصر السطوة والبلطجة الإسرائيلية في ظلّ عدم استعداد «الغرب» للدخول في حربٍ طاحنة وشاملة مع إيران، مع استمرار الاستعداد «الغربي» للدفاع عن دولة الاحتلال بأيّ ثمن في حالة تهديد وجودها.
«الشرق الأوسط الجديد» الذي كانت تعمل عليه الولايات المتحدة، أصبح الآن وراءنا، و»الشرق الأوسط الجديد» الذي يتولّد الآن من رحم التوازنات الجديدة الإقليمية والدولية يطلّ برأسه في عملية مخاضٍ عسير.
ويبقى أحد أسرار هذا الإقليم، بل أحد إعجازاته هو الديناميكيات المتسارعة فيه، وسرعة المتغيّرات التي تطرأ عليه.
هل تفكّر الولايات المتحدة بخديعة إستراتيجية كبرى لمباغتة إيران، والتدخل في حرب تدميرٍ شاملة لإيران؟
هل ستدخل في مغامرة كهذه، أو بالأحرى مقامرة؟
من حيث المبدأ فإنّ الجواب عن هذا السؤال هو على الأرجح بالنفي، ولكن السبب الحقيقي هو الإمكانيات الإيرانية، وليس «كرم أخلاق» الولايات المتحدة، وربّما أن الولايات المتحدة ليست متأكّدة من أن إيران لا تمتلك السلاح النووي، وليس التقنية النووية، لأنّ هذه الأخيرة موجودة في إيران منذ سنواتٍ طويلة.
كان الله في عون هذا الإقليم قبل أن تلتئم طاولة الشرق الأوسط الجديد الحقيقي، وليس المتخيّل من قبل «الغرب» ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
كتحذير لإيران.. قاذفات B-52 الأميركية تصل الشرق الأوسط
03 نوفمبر 2024