رغم أن الرد الإيراني على القصف الإسرائيلي لقنصليتها في دمشق، جاء بعد أسبوعين من ذلك القصف، وجاء مركزاً ومحدوداً، وتعمّد عدم إيقاع خسائر بشرية في الجانب الإسرائيلي، فإنه انطوى على أهمية إستراتيجية بالغة، فهو قطع الطريق على عدم الرد الإيراني على جملة من الاغتيالات الإسرائيلية بحق عدد من قادتها العسكريين في أكثر من مكان، وعلى قصف أكثر من موقع داخل إيران، وقد جاء الرد مباشراً، ليضع حداً واضحاً للردع الإسرائيلي، والأهم أنه استدعى كما فعلت "طوفان الأقصى" قبل ستة أشهر، المشاركة العسكرية الأميركية والغربية عموماً، بما يؤكد بأن إسرائيل اضعف من أن تحمي "سطوتها" على المنطقة، وأنه ليس بمقدورها أن تستمر طويلاً في الدفاع عن احتلالها أرضَ الغير، فضلاً عن الاستمرار في العربدة الشرق أوسطية، حيث تدّعي بحقها في التحكم بمستقبل الآخرين، بما في ذلك حقهم الطبيعي حتى في امتلاك السلاح الذي تمتلكه إسرائيل نفسها، ونقصد السلاح النووي.
وقد تأكد انعدام الردع الإسرائيلي بل وحتى الأميركي، حين سارع أنتوني بلينكن إلى الإعلان عن عدم مشاركة أميركا لإسرائيل في ردها الباهت والمحدود للغاية بإرسال ثلاث مسيّرات إلى أصفهان، تماماً كما نجح الحوثي خلال الأسابيع السابقة في تحدي الأميركيين والبريطانيين في بحر العرب والبحر الأحمر، أما إسرائيل فإن ردها جاء تأكيداً لتآكل ردعها، وهي لو لم ترد لكان أفضل، فهي أطلقت مسيّرات محدودة لإيران، لم تُحدث شيئاً، بما يؤكد بأن التحدي الإيراني أصلاً قد أدى وظيفته ونجح في كبح الإسرائيليين حتى وهم مدعومون أميركياً وغربياً. وما أكد ذلك هو عدم قدرة الإسرائيليين على تبني الرد، وفقط أعلنته بشكل مبطن نائبة في الكنيست عن الليكود، هي تالي جوتليب المتطرفة، التي تفاخرت بالرد الإسرائيلي الباهت والضعيف جداً، بحيث أدت تحية الصباح لشعب إسرائيل وطالبته برفع رأسه فخراً، على الرد!
كان هذا شيئاً مضحكاً، فكيف لشعب إسرائيل أن يشعر بالفخر وأن يرفع رأسه وهو يرى أنه ما زال بعد 80 سنة على إقامة دولته، بحاجة لحماية الغرب، من مجموعات مسلحة بأسلحة بدائية، بل حتى من بعض الدول التي لا تمتلك جزءاً كبيراً من سلاح إسرائيل، وبالطبع ليس من ضمن ذلك السلاح النووي؟!
أما حاجة إسرائيل لحماية الغرب عسكرياً، بعد أن استمر دعم الغرب المالي والسياسي على مدار العقود الثمانية الماضية، فإنه أمر يجب أن يكون محور النقاش والحوار الاستراتيجي في المنطقة من قبل كل الأطراف، ليجيب عن السؤال: لماذا ما زالت إسرائيل تحتاج الدعم والإسناد الغربي، المالي/الاقتصادي، السياسي والعسكري، ولماذا لم تصبح إسرائيل بعد دولة "طبيعية" في الشرق الأوسط؟ فهي الدولة الوحيدة في العالم التي ما زالت بحالة عداء مع محيطها، هذا رغم أن الحرب العالمية الثانية قد توقفت منذ قيام إسرائيل، كذلك انتهت الحرب الباردة منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، ساد خلالها النظام العالمي الأميركي الحامي لإسرائيل، ورغم أن إسرائيل عضو في الأمم المتحدة منذ قيامها، ورغم عقد اتفاقيات سلام بينها وبين أكثر من دولة عربية، بل ورغم أن إسرائيل سبق لها وأن عقدت اتفاقية سلام مع الجانب الفلسطيني!
في الرد على السؤال وإزاء مشكلة وجود إسرائيل في الشرق الأوسط، أحد حلين: إما إعادة فك إسرائيل وتركيبها بحيث تتحول من قاعدة عسكرية لفرض سيطرة الغرب على المنطقة، واستمرار حاجتها للغرب ليدافع عنها، ويحافظ على تفوقها وسيطرتها، أو الإبقاء على حالها هكذا، والإبقاء على حالة الحرب بين إسرائيل ومحيطها الأوسطي، إن لم يهدد العالم بحرب عالمية نووية، فإنه سيعيد انقسام العالم إلى معسكرات متناحرة، وهكذا لا يمكن قبول أميركا زعيماً لنظام عالمي تتحكم هي فيه.
والحقيقة أنه كانت لأميركا وليس فقط لإسرائيل الرغبة في تحويل مسار الاهتمام العالمي عن حرب الإبادة الإجرامية الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن شرط عدم تحول الحرب إلى حرب إقليمية، ومجرد أن قامت إيران بالرد على قصف قنصليتها سارعت واشنطن وعواصم الغرب للتنديد والإدانة، مع أنه لم يسبق لها أن نطقت ببنت شفة بحق العدوان الإسرائيلي السافر على إيران وسورية معاً، بعملية قصفها لمقر القنصلية الإيرانية في دمشق، والتي أوقعت ضحايا إيرانيين، أي لم تكن مجرد رسالة سياسية، وقد وجدت واشنطن الرد الإيراني بمثابة فرصة لها لتصدح بإعلانات الالتزام بأمن إسرائيل، وهي لم تقف عند مجرد القول، بل شاركت في التصدي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية قبل أن تصل سماء إسرائيل، فيما مازال بلينكن، وفي الوقت نفسه الذي قام فيه مندوبه في مجلس الأمن باستخدام الفيتو ضد إرادة 12 عضواً مع امتناع اثنين فقط، ولا أحد سوى الولايات المتحدة ضد، لمشروع القرار الخاص بالاعتراف بدولة فلسطين عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة، يتحدث عن وقوفه لجانب أمن إسرائيل.
لماذا إسرائيل دوناً عن كل دول المنطقة، بل ربما والعالم، والحري بدولة لا تزال ترى في نفسها الدولة التي تقود النظام العالمي، أن تحرص على الأمن الجماعي، أمن العالم بأسره، ومنه أمن الشرق الأوسط، وليس أمن دولة واحدة فقط، خاصة وأن أمن هذه الدولة يتعارض أو على أقل تقدير لا يكون إلا على حساب أمن وحقوق دول وشعوب المنطقة، كذلك حري بالدولة التي تعتبر نفسها الدولة التي تقود العالم، بأن تنسجم مع الأغلبية الدولية، كما هو حال "مختار القرية" أو عمدة العائلة أو شيخ العشيرة، أي كبير القوم الذي عادة ما يتخذ موقفاً وسطاً، يجمع الناس حوله، لا أن يفرقهم بالانحياز لبعضهم ضد بعضهم، وطوال عقود، وعلى نحو خاص ظهرت أميركا خلال الأشهر الأخيرة، وخلال جدل العالم حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ليس كعمدة أو كشيخ للقوم، بل كبلطجي، أو قرصان، فهي صوتت ضد خمس مشاريع قرارات، كانت في بعضها وحدها، كما كان حال القرار 2728، وكانت وحدها تضطر لاستخدام الفيتو لتحبط مشاريع قرارات وافقت عليها أغلبية الثلثين، كما حدث مع آخر قرار خاص بالاعتراف بدولة فلسطين كاملة العضوية الأممية.
هكذا ظهرت أميركا في مجلس الأمن في العديد من المرات ضد 12_14 عضوا من أصل الـ 15 عضواً، وظهرت ترفع يدها مع عدد محدود من الدول ضئيلة الأهمية، أي مع دول لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، مقابل 150 أو أكثر من دول العالم وهي تصوت لصالح مشاريع قرارات تدين الاحتلال الإسرائيلي وتنتصر للحقوق الفلسطينية المهدورة على مذبح الاحتلال.
وظهرت أميركا أسوأ من ذلك بكثير في شوارع وميادين عواصم ومدن العالم، بما في ذلك عاصمتها واشنطن، ومدنها الرئيسة مثل نيويورك وغيرها، ظهرت وقد نددت بها شعوب العالم، على مشاركتها لحرب الإبادة وجرائم الحرب مكتملة الأركان، الواضحة والصريحة، وإزاء إغلاقها الباب طوال سبعة أشهر على رغبة العالم بوقف تلك الحرب الإجرامية، وهكذا يمكن القول إن إسرائيل بالذات أصبحت دولة لا تمثل عبئاً مالياً وسياسياً وأخلاقياً على الولايات المتحدة وحسب، بل إنها صارت تحول دون استحقاق أميركا للبقاء كزعيم للنظام العالمي.
وبلغة السياسة، نقول إن إسرائيل تتسبب مع حربها على قطاع غزة، واستمرار احتلالها لأرض دولة فلسطين، وارتكاب جرائم الحرب في كل مدن فلسطين، أي في القدس والضفة الفلسطينية وليس في قطاع غزة وحسب، تتسبب إسرائيل في سقوط أميركا عن عرش العالم، وهذا السقوط تكتمل أركانه بظهور أميركا _كما أسلفنا_ كدولة تحمي دولة مارقة، ترتكب جرائم الحرب، وتحتل أرض الغير، وتمارس كل فعل مدان سياسياً وقانونياً من معظم العالم، كذلك باضطرار أميركا للزج بالأموال الهائلة والذخائر والأسلحة وحتى بالخبراء العسكريين، فضلاً عن بوارجها وأساطيلها للدخول في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وبلغة السياسة نقول باختصار إن الحرب التي ما زالت إسرائيل تواصلها وفق مشيئتها، قد كلفت أميركا الكثير، فقد "حررت" روسيا من الضغط الأميركي والغربي عليها في حربها مع أوكرانيا، بحيث بات ممكناً القول بأن روسيا انتصرت وأوكرانيا قد انهزمت، فيما وجدت الصين فرصتها للتقدم بنفوذها الاقتصادي العالمي دون العقبات الأميركية، إن كان بمحاولة إشغالها بتايوان أو غيرها، وحتى إيران وجدت فرصتها للتنفس بعيداً عن الملاحقة الدولية فيما يخص برنامجها النووي. كل هذا حدث ويحدث لأن أميركا وهي تعلن خلافها مع بنيامين نتنياهو حول إدارة الحرب، عجزت عن فرض موقفها، يقودها نتنياهو على طريق مصلحته الشخصية السياسية، وليس العكس.
يديعوت أحرونوت: أميركا تدرس فرض عقوبات على بن غفير
13 نوفمبر 2024