لا تزال غزّة تحفر عميقاً في ذاكرة الرأي العام العالمي، كما لم يحدث من قبل خلال سنوات الصراع الفلسطيني والعربي الصهيوني، وبخاصة في المجتمعات التي تحسب كلّ الوقت باعتبارها داعمة أو شريكة في الحروب التي تشنّها دولة الاحتلال.
ما يحصل في الجامعات الأميركية هذه الأيّام ابتداءً من جامعة كولومبيا يشكّل اختراقاً يوازي في أبعاده بل يفوق ما وقع صباح 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، ويعطي لذلك اليوم أبعاداً إستراتيجية لا نظنّ أنّها كانت محسوبة على هذا النحو، من قبل فصائل المقاومة الفلسطينية وحلفائها.
ما يجري على ساحات الجامعات الأميركية، ينطوي على أبعاد هائلة تذكّر الجميع بنضال الطلبة الأميركيين العام 1968، ضدّ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ويذكّر، أيضاً، بدور الرأي العام الأميركي في الضغط من أجل انسحاب القوات الأميركية من فيتنام.
المشروع الصهيوني وُلدَ في أحضان الدول الاستعمارية «الغربية» ولخدمتها ابتداءً من بريطانيا وفرنسا، ثم الولايات المتحدة، مع استمرار دعمه من قبل الاستعمار القديم.
هذا يعني أنّ المشروع ينطوي على أبعاد استعمارية بامتياز، تضاعفت أهمّيته بالنسبة للدول التي تتبنّاه، وتدعمه، وتمدّه بكلّ أسباب القوّة والتفوُّق، نظراً لما تنطوي عليه المنطقة من أهمية إستراتيجية، وبهدف السيطرة على ثرواتها، وموقعها.
لذلك أعتقد أنّ إلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني، تبدأ من فلسطين كساحة الصراع المباشر، وحولها، ولا تتحقّق إلّا بإرغام الدول التي تتبنّاه وتؤمّن له دوام البقاء والفعل، على التخلّي عنه تحت ضغط تهديد مصالحها.
حتى الآن لم يصل فعل الشعب الفلسطيني إلى مستوى تهديد مصالح الدول الاستعمارية في المنطقة، وذلك بسبب تخاذل الأنظمة العربية وارتهانها، بل اندراجها في سياق الإستراتيجيات «الغربية».
الخيار الثاني، يكمن في إمكانية التأثير المُجدي والفعّال في البنية الاجتماعية والسياسية في الدول المذكورة وعلى رأسها الشريك والداعم الأساسي للاحتلال.
خلال فترة طويلة من الصراع، ظلّ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، يلعب الدور الأساسي وربّما الحاسم في سياسات الولايات المتحدة، بينما لم تنجح كلّ المحاولات، إن كانت موجودة، في تشكيل لوبي عربي، قادر على موازنة الضغط الصهيوني.
في زمنٍ سابق لعبت النقابات والاتحادات الشعبية الفلسطينية وعلى رأسها الاتحاد العام لطلبة فلسطين دوراً مهمّاً في أوساط الجالية الفلسطينية والعربية، لكن هذا الدور انتهى بتغيير دور وفعالية الاتحاد وبقية الأجسام النقابية الفلسطينية منذ توقيع «اتفاقية أوسلو».
ما يجري الآن على خلفية تأثير الحرب الإجرامية ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة والضفة الغربية يفتح الأمل أمام إمكانية تجاوز فكرة اللوبي العربي إلى تيّار أميركي يتوسّع يوماً بعد الآخر، نحو معادلة تأثير اللوبي الصهيوني، وتوسيع مساحة التأثير على الإدارات الأميركية.
الحديث يدور أوّلاً عن الطلبة، والشباب، الذين يتجمّعون بمئات الآلاف في الجامعات الأميركية، التي تستقبل أبناء النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما في ذلك النخبة السياسية الحاكمة.
من هذه الجامعات تخرّج معظم رؤساء الولايات المتحدة، وكبار السياسيين والمشرّعين والفاعلين الاجتماعيين والمفكّرين، ولذلك فإنّ ما يجري على ساحة الجامعات هذه الأيام، يبشّر بوجود جيل سيحتلّ بعد بضع سنوات، المواقع السياسية المتقدمة في المجتمع الأميركي.
هذه الفئة من المجتمع، تمتلك حيوية استثنائية في التأثير المباشر وبعيد المدى على ثقافة المجتمع واتجاهات تطوّره ما يفتح آفاقاً واسعة، أمام رؤية أكثر واقعية للدور السلبي والخطير الذي تلعبه النخبة السياسية.
تكشف هذه «الانتفاضة الطلابيّة»، التي تزداد زخماً يوماً بعد الآخر، ما تبقّى من مصداقية خطاب الإدارة الأميركية بشأن الحرّية، والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لقد ساهمت السياسات «الغربية» تجاه الحرب الدائرة في أوكرانيا، في فضح ازدواجية المعايير، ولكن ما يجري في ساحات الجامعات الأميركية، يوجّه ضربة قاصمة لسياسة المعايير المزدوجة، ويكشف زيف ادّعاءات خطاب الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
أكثر من ستّمائة طالب، وعضو هيئة تدريسية، قامت الشرطة باعتقالهم وتتهمهم السلطات بمعاداة السامية والتحريض على الإرهاب.
لا تنتبه السلطات إلى أنّ طلاباً يهوداً يشاركون في هذه الاحتجاجات ويمزّقون خطاب معاداة السامية، الذي بدأ هو الآخر يتهاوى حتى لم يبقَ في جراب الإدارة الأميركية أي ذرائع أخرى لتبرير قمعها للطلاب، ودوام مشاركتها في الحرب الدموية في القطاع والضفة.
تجدر الإشارة إلى أن قمع الاحتجاجات الطلابيّة لم ينفع حتى الآن في تخويف الطلاب أو دفعهم للتراجع عن مطالبهم، بل إنه يزيد النار اشتعالاً، حيث ينضمّ الطلاب في جامعات أخرى إلى الحراك الذي بدأ من جامعة كولومبيا، بل إنّ تأثير هذه الاحتجاجات أخذ يمتدّ إلى الدول الغربية الداعمة لحرب الإبادة الجماعية والتجويع والمشاركة فيها.
هذا المشهد لا يزول بزوال الحدث الذي كان سبباً في اندلاع الاحتجاجات، ذلك أنّه ينطوي على تغيير عميق في وعي الرأي العام، تجاه الرواية الإسرائيلية لصالح الرواية الفلسطينية.
يبدو أنّ نتنياهو أكثر من يفهم ويتأثّر بأبعاد هذه الاحتجاجات، فهو يستشعر الخطر، ولذلك فإنّ ردود فعله، تدلّ على فقده أعصابه، لأنّ ما يقع لا يمكن لدولة الاحتلال إصلاح أضراره ومخاطره القريبة والبعيدة عليها.
نتنياهو .. صفعة قوية للإدارة الأميركية
04 سبتمبر 2024