في ظل المخاوف من انفتاح الجبهات على مواجهات تخرج عن السيطرة خلال شهر رمضان، سعت الإدارة الأميركية مع الوسيطين القطري والمصري، إلى التركيز على صفقة تبادل الأسرى بين «حماس» وإسرائيل، مع ما هو معلوم من أن الصفقة في حال الاتفاق عليها، ستوقف إطلاق النار، وإن بشكل مؤقت، لكن مع مرور شهر رمضان دون انفلات المواجهات في كل الجبهات، ودون الاتفاق على صفقة التبادل، ساد الاعتقاد بأن المفاوضات حول صفقة التبادل مع رد «حماس» الذي تمسك بشروطها، خاصة مع دخول التوتر بين إسرائيل وإيران على خط المواجهة، مع الرد الإيراني على قصف قنصليتها في دمشق منتصف الشهر الحالي، ساد الاعتقاد بأن تلك المفاوضات قد وصلت إلى الطريق المسدود، وقد تضاعف ذلك الاعتقاد مع تلويح قطر بتجميد وساطتها المحورية في تلك المفاوضات.
وكان من الطبيعي أن ترتفع عقيرة الجانب الإسرائيلي بإعداد الخطة العسكرية الخاصة باجتياح رفح، وهكذا عاد الأميركيون مجدداً للاتصال مع الإسرائيليين للتأكد من وجود ترتيبات لديهم بما يضمن تجنيب المدنيين الذين تكتظ بهم رفح الكارثة المحتملة مع الاجتياح، وقد ترافق ذلك مع تسريبات إسرائيلية بمعرفة مصر بالخطة الإسرائيلية الخاصة باجتياح المدينة الفلسطينية الحدودية مع مصر، مع ما يحتمله ذلك ليس فقط من سقوط الضحايا بعشرات الآلاف وحسب، بل بوقوع مواجهة ربما لا تتوقف حدودها عند تعليق القاهرة لاتفاقية كامب ديفيد وحسب، بل حتى بوقوع مواجهة عسكرية، لأن اجتياح إسرائيل لرفح سيؤدي لا محالة إلى خروج نحو مليون فلسطيني إلى سيناء، ولهذا عاودت واشنطن اهتمامها بمفاوضات الصفقة، فيما تضاعف اهتمام مصر بها، وقد دخلت القاهرة بذكاء من «الشق» الذي يمكنه أن يلوي ذراع بنيامين نتنياهو، المعيق الرئيسي لاتفاق الصفقة، وذلك بمتابعة بحث الأمر على المستوى الأمني بين المخابرات المصرية ونظيرتها الإسرائيلية.
ولمزيد من الضغط على الجانب الإسرائيلي، أعدت القاهرة مقترحا يعتبر «حلاً وسطاً» بين موقف حماس والموقف الإسرائيلي، ومعروف بأن إسرائيل مدفوعة بالضغط الأميركي تسعى لصفقة يتحرر من خلالها المحتجزون، خاصة الأميركيون_الإسرائيليون، ليكون ذلك ورقة انتخابية لبايدن، أي أنهم معنيون باتفاق مؤقت، يتوقف خلاله القتال أسابيع، ثم يتواصل، كما حدث بعد اتفاق الصفقة التي تم التوصل إليها في آخر تشرين الثاني الماضي، فيما حماس تريد وقفاً دائماً لإطلاق النار، أي توقف الحرب تماماً، وعودة الحال إلى ما كان عليه، بانسحاب إسرائيل من غزة وعودة النازحين إلى شمال القطاع، ورغم أن المقترح المصري الذي قوبل بموافقة إسرائيلية، ما يزال بانتظار رد حماس، إلا أنه نجح أولاً في «تأجيل» اجتياح إسرائيل لرفح، رغم أن قدرة إسرائيل على تنفيذ خطة الاجتياح قد تعرقلت لأسباب عديدة، منها المعارضة الدولية واسعة النطاق، والفشل العسكري، ومواجهة كسر العظم المحتملة، مترافقة بانفتاح الجبهات الأخرى على مواجهة أعلى في وتيرة الحرب، وقد رد الإسرائيليون على المقترح المصري بالقول بأنهم يمنحون المفاوضات فرصة أخيرة.
حقيقة الأمر أن وساطة مصر لهذه المفاوضات مهمة للغاية وحاسمة، ذلك أن فشلها من قبل أحد الطرفين سيجعل منه في مواجهة الوسيط المصري، فإن كان الجانب الإسرائيلي هو السبب، فإن ذلك سيعني تشدد الموقف المصري في الرد إزاء البديل الإسرائيلي عن اتفاق الصفقة، أي اجتياح رفح، قد يصل كما أسلفنا، إلى تعليق أو إلغاء اتفاقية كامب ديفيد، على أقل تقدير، وتعليق الاتفاقية يعني أن تتحرر مصر من قيود نشر قواتها العسكرية في سيناء، وصولاً إلى حدودها الشمالية الشرقية، حيث ستجد إسرائيل الجيش المصري وليس القسام في مواجهتها، وإن كانت «حماس»، فإن ذلك يعني بأن مصر ستتراجع في كونها حائط صد يمنع التهجير، ويزج بالمساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة، بما يعني بأن إسرائيل يمكنها وإن على مدى سنوات قادمة، أن تبقي على حالة غزة الحالية، أي محاصرة عسكرياً، سكانها مضغوطون في ربع مساحة القطاع الجغرافية، في ظل ظرف انعدام الحياة، بما لا يمكن احتماله طويلاً.
وربما لهذا ومن أجل الإبقاء على زخم التداول السياسي والإعلامي لملف الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، وبعد تشكيل حكومة التكنوقراط المستقلين الفلسطينية، ولأن البحث في مستقبل ملف الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لا بد أن يبدأ فور التوصل لاتفاق صفقة التبادل، أو لحظة إقدام إسرائيل على مجازفة اجتياح رفح، فإن حماس تقدمت بإعلان لافت جاء على لسان خليل الحية نائب يحيى السنوار، أي نائب رئيس المكتب السياسي لقطاع غزة، الذي قال فيه باستعداد حماس للدخول في (م ت ف) فوراً، واستعدادها للتحول إلى حزب سياسي في ظل دولة فلسطينية مستقلة، على حدود العام 67، بل واستعدادها_ وهذا كان إعلاناً غير مسبوق_ لأن تقوم بحل كتائب القسام، جناحها العسكري، ليندمج أفرادها في جيش دولة فلسطين.
هكذا يعود الحديث مجدداً عن مفاوضات من أجل صفقة تبادل المحتجزين بالأسرى الفلسطينيين مع وقف مؤقت أو دائم لإطلاق النار، والجديد الذي تضمنه المقترح المصري، إضافة إلى تحرير 20_40 محتجزاً إسرائيلياً، بالطبع هؤلاء من المؤكد أنهم ما زالوا أحياء، هذا أولاً، وثانياً ربما كان من ضمنهم من يحملون الجنسية الأميركية، وذلك لتحقيق هدف بايدن، لجعل ذلك ورقته الانتخابية، التي ربما كان نتنياهو يعارضه فيها، لرغبته في فوز دونالد ترامب وليس بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية، وهذا البند هو المرحلة الأولى من المقترح المصري، وهو يعني وقف إطلاق النار مدة أسابيع، بمعدل يوم أو أكثر لكل محتجز، وهذا البند قد تضمنته كل الاقتراحات السابقة منذ ورقة باريس، أما الجديد فهو أن تشمل المرحلة التالية هدنة لمدة عام، مضمونة دولياً.
باختصار عادت مفاوضات صفقة التبادل للتداول مجدداً، ولهذا رفع الطرفان عقيرتهما بما يمكن اعتباره أوراق ضغط من أجل دفع الطرف الآخر للتنازل في موقفه، فإسرائيل عادت _كما أسلفنا _للحديث عن اجتياح رفح، وذلك بسرد كثير من التفاصيل، من مثل توزيع الخيام لإقامة النازحين من رفح إلى خان يونس ودير البلح، فيما أعادت حماس إطلاق رسائل المختطفين، الموجهة للداخل الإسرائيلي، كذلك عاد الناطق باسم القسام أبو عبيدة للظهور مجدداً، بالرسائل المصورة، والأهم هو ما تداولته الصحف الإسرائيلية عن ظهور للسنوار فوق الأرض في غزة، وبين المواطنين، وإطلاق هذه الرسائل على الجانبين يعني بأن مفاوضات الصفقة لم تتوقف، بل يمكنها أن تنجح رغم الرعاية المصرية المنفردة لها، فمع خروج قطر من دائرة الوساطة، تراجعت قدرة نتنياهو على التعطيل، كما أنه بات يواجه الأجهزة الأمنية التي تتولى مهمة التفاوض حول الصفقة، إضافة إلى عودة ضغط عائلات المحتجزين بعد أن نشرت «حماس» رسائل بعضهم يطالبون فيها نتنياهو بعقد الصفقة وأهاليهم بمواصلة التظاهر.
المهم أن هناك تسريبات إعلامية إسرائيلية تشير إلى أن إسرائيل قد تنازلت كثيراً عن موقفها المتعنت السابق، وفي الوقت الذي تنشر فيه وسائل الإعلام الإسرائيلية تباعاً اتهامها لنتنياهو شخصياً باعتباره من يعطل الصفقة فقط، فإنها قالت بموافقة إسرائيل على أهم شروط حماس، وبالتحديد انسحاب الجيش من ممر نتساريم الذي أقامه خلال الحرب ليفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه، كذلك عودة النازحين الكاملة إلى شمال القطاع.
ولعل أقوى أداة ضغط على نتنياهو الذي يقف شخصياً وراء استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، إضافة لتصاعد التظاهرات العالمية كمّا ونوعاً، وصولاً إلى تظاهرات طلبة الجامعات الأميركية والأوروبية، هو ما يتوقعه الإسرائيليون من مذكرات اعتقال ضد نتنياهو ويوآف غالانت وزير الدفاع وهيرتسي هاليفي رئيس الأركان من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، هذا ما يقض مضجع نتنياهو حالياً، بما دفعه لإرسال طلبات الاستغاثة من عواصم الغرب، فيما واشنطن نفسها كانت قد بحثت في احتمال فرض عقوبات على 3 كتائب من الجيش الإسرائيلي، وهكذا فإن المرجح هو أن يسقط نتنياهو أخيراً، وقد يبدأ سقوط حجارة الدونيمو، بمحاولته مقايضة مذكرات الاعتقال بوقف الحرب، وذلك بتمرير صفقة التبادل، التي قد تضطره إلى التضحية ببن غفير وسموتريتش مقابل شبكة أمان من لابيد، فيما يحاول بعد ذلك الخروج بشكل آمن، من خلال عقد الصفقة الداخلية، وجوهرها تبكير الانتخابات مقابل عدم ملاحقته قضائياً، وهكذا على ما يبدو بات نتنياهو بعد أن قامر بكل شيء، مطلوباً للعدالة الدولية، كما هو مطلوب للقضاء الداخلي، بات نتنياهو المتهم الذي جلّ ما تبقى أمامه من قدرة على المراوغة، هو أن ينجح في الخروج الآمن من مآل مرجح بقضاء ما تبقى من عمره في السجن.