الشـــعــب الفلسـطـيـنـي

images (1)
حجم الخط

 

بقلم: دمتري شومسكي
الاقوال السخيفة لعضو الكنيست، عنات باركو، التي قالت في خطابها في الكنيست، إن الأمة الفلسطينية غير موجودة لأن اللغة العربية ليس فيها حرف p، ذكرتني بالنكتة اللاسامية التي سمعتها في طفولتي. 
في الاماكن السكنية في الاتحاد السوفييتي قال ولد اوكراني من الجيران: «لماذا لا يوجد وطن لليهود؟ لأنهم يجدون صعوبة في لفظ حرف الـ غ لغويا». (وهو الحرف الذي تبدأ فيه كلمة غودينا – أي وطن باللغة الروسية).
ورغم الاهانة الثقافية لادعائها، يصعب عدم الموافقة على الادعاء الثانوي الذي تحمله اقوال باركو، وهو أن الهوية الوطنية الفلسطينية ليست نتاجا طبيعيا ومفروغا منه لتطور قومي تاريخي للعالم العربي. فمن ينظر الى اوائل القرن العشرين كان سيلاحظ التوجهات السياسية والاجتماعية في المناطق العربية للامبريالية العثمانية، وكان سيفرض أنه بعد عملية تاريخية متواصلة فان الهويات المحلية والاقليمية والدينية والقبلية في تلك المناطق ستتحول بالتدريج الى هوية قومية عربية شاملة.
في تلك الفترة وفي أعقاب ثورة «الشبان الاتراك» في العام 1908 وتشكيل نظام دستوري لفترة قصيرة في الدولة، نشأت في المناطق التي كانت تحت سيطرة الامبراطورية جمعيات ومنظمات عربية بمستويات متفاوتة من التوجهات القومية. يمكن الافتراض أن العالم العربي سيمر بعملية مشابهة لتلك التي كانت للهوية السكسونية أو البافارية من اجل الاندماج بمستويات مختلفة من النجاح في الهوية القومية الالمانية، واندماج الهوية المورابية في الهوية القومية التشيكية، واندماج الهوية المنغرالية والاغاريكية في الهوية القومية الجورجية، والهويات القوزاقية في الهويات القومية الروسية وهكذا دواليك.
لكن القدر أراد غير ذلك. ففي نهاية الحرب العالمية الاولى ومقابل الانتفاضات العربية ضد الاتراك التي أدت الى انتصار دول الوفاق وساهمت أكثر من الصهاينة الالمان والاستروهنغاريين التي حاربتها ضمن جيوش دول المحور، فقد قسمت دول الغرب المنطقة العربية الى مناطق نفوذ. واثناء ذلك، القوة العظمى المسيحية البروتستانتية، التي بسبب حساسية دينية خاصة من قبل زعمائها للارض المقدسة، أيدت الحركة الصهيونية وقامت بتشكيل كيان جغرافي لم يكن قائما في الامبراطورية العثمانية داخل وحدة ادارية – «ارض اسرائيل» – وأعلنت أنه في هذه المنطقة سيقام وطن قومي لليهود الذين كانوا في ذلك الحين أقلية داخل سكان هذا الكيان.
المغزى الفعلي لهذه التطورات كان أنه على سكان المكان العرب الذين تم حبسهم من الناحية الادارية داخل حدود «ارض اسرائيل الانتدابية»، فُرض على ضوء هجرات اليهود أن يتحولوا من اكثرية الى أقلية. السكان المحليون مثل أي مجموعة انسانية تريد الحياة لم يسلموا لهذا المصير، وبدأوا بالنضال. وخلال هذا النضال، المواليد العرب سواء كانوا مواليد «ارض اسرائيل»/ فلسطين أو مواليد المناطق الاخرى في المنطقة العربية التي كانت «ارض اسرائيل»/ فلسطين جزءا لا يتجزأ منها على مدى مئات السنين، تمسكوا أكثر فأكثر بعلاقتهم المحلية الجغرافية الفلسطينية.
في أعقاب هذه العمليات، أخذ الوعي المحلي الفلسطيني، الذي كان حتى سقوط الامبريالية العثمانية، يلبس مع سنوات الانتداب البريطاني وبعد انتصار الصهيونية الديمغرافي والسياسي، شكل الهوية القومية السياسية بكل معنى الكلمة.
الأمة السياسية العربية الفلسطينية هي نتاج غير مباشر، لكن واضح، للنجاح الدبلوماسي والسياسي والعسكري للصهيونية. من هنا فان اليهود الاسرائيليين يحتاجون الى قدر كبير من عدم المسؤولية التاريخية لانكار وجود شعب وحركة قومية، وقدر كبير من الوقاحة من اجل انكار الحقوق القومية في الوقت الذي كان فيه الصهاينة أنفسهم هم الأكثر استفادة من وجود الاطار الدولي الذي مكّن من نشوء القومية.
صحيح أن الشعب الفلسطيني نشأ بشكل مصطنع وعنيف. خصوصا أنه ظهر على منصة التاريخ كقومية سياسية نتاج تمزيق اللحم الحي للقومية العربية، والوعي القومي العميق مثل عمق الجرح القومي النازف.
من، اذا لم نكن نحن اليهود، يعرف أن الهوية الجماعية التي تولد في الخراب القومي ومنقوشة في وعي الشعب بدم ضحاياه لا يمكن محوها بسهولة. لدى عنات باركوا بالطبع الحق الكامل للتشكيك بوجود الشعب الفلسطيني. إلا أن هذا لا يغير حقيقة اجتماعية وسياسية بسيطة: الشعب الفلسطيني حي يُرزق مثل الشعب اليهودي. وهو يستحق تقرير المصير في فلسطين رغم أنه يشمل أحفاد العرب الذين ولدوا خارجها تماما مثلما أن الشعب اليهودي يستحق تقرير المصير في «ارض اسرائيل»، رغم أنه على مدى التاريخ انضم اليه أبناء جماعات عرقية مختلفة لم تطأ أقدامها هذه الارض.
حتى لو كانت الخطة السياسية الخفية لليمين هي محو الفلسطينيين – التي تختفي وراء اقوال باركو مثل التشخيص الدقيق لروغل ألفر («هآرتس»، 12/2) – وستكلل بالنجاح والفلسطيني الاخير سيتم طرده من ارضه – فان الشعب الفلسطيني لن يختفي من العالم، وسيجد الطرق للاستمرار في تبني حلم العودة الى الوطن وهو في الشتات، وسيستمر في مطاردة اليهود الاسرائيليين. وفي نهاية المطاف هناك للشعب الفلسطيني معلمون جيدون ومُجربون في كل ما يتعلق بمسائل المنفى والانبعاث.

عن «هآرتس»